ثم إن ذلك المسافر الذي لا يسكن ولا يهدأ خاطَب قلبَه قائلا:

إن تكرار أهل الإيمان «لا إله إلّا هو» باستمرارٍ وبخاصة المتصوفة منهم، وإعلانَهم نداء التوحيد، وتذكيرَهم به يبين لنا أن هناك مراتب كثيرة جدا للتوحيد. وأن التوحيد هو أهم وظيفة قدسية وأحلى فريضة فطرية وأسمى عبادة إيمانية. فما دام الأمر هكذا، فتعال يا قلب لنفتح بابا لمنزلٍ آخر من منازل دار العبرة والامتحان هذه، لنتعرّف من خلاله على مرتبة أخرى من مراتب التوحيد؛ لأنَّ التوحيدَ الحقيقي الذي ظللنا نبحث عنه ليس مقصورا على معرفةٍ نابعة من تصوّر، بل هو أيضا ما يقابل التصور في علم المنطق من التصديق الذي هو عِلم، وهو نتيجة نابعة من البرهان، وهو أسمى من مجرد المعرفة التصورية بكثير.

فالتوحيد الحقيقي إنما هو حُكم وتصديق وإذعان وقبول، بحيث يمكّن المرء من أن يهتدي إلى ربه من خلال كل شيء. ويمكّنه من أن يرى في كل شيء السبيلَ المنوَّرة التي توصله إلى خالقه الكريم، فلا يمنعه شيء قط عن سكينة قلبه واطمئنانه واستحضاره لمراقبة ربّه.

فلو لم يكن الأمر هكذا، لاضطر المرءُ إلى أن يمزق حجاب الكائنات ويخرقه -كل مرة- كي يتمكن من التعرف على ربّه! لذا نادى المسافر قائلا: هيا بنا إذن لنطرق باب «الكبرياء والعظمة» ولندخل منزل «الآثار والأفعال» وعالم «الإيجاد والإبداع».. فما إن ولج هذا المنزل حتى رأى أن هنالك «خمس حقائق محيطة» تستحوذ على الكون وتُثبت التوحيد وتستلزمه بالبداهة.

الحقيقة الأولى: حقيقة العظمة والكبرياء

نظرا لتوضيح هذه الحقيقة ببراهينَ في «المقام الثاني من الشعاع الثاني» وفي عدة مواضع من رسائل النور نكتفي هنا بما يأتي:

إن الذي أوجد النجوم التي يبعد بعضُها عن البعض الآخر آلاف السنين، والذي يتصرّف فيها في آن واحد وعلى نمط واحد. والذي يخلق أفرادا غير معدودة لنوع واحد من زهرة نابتة في الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب من الأرض، ويصوّرها في وقت واحد وعلى هيئة واحدة وصورة واحدة، والذي يخبرنا عن أعجب حادثة ماضية وغيبية في قوله

Yükleniyor...