وإشارةً إلى المعرفة الإيمانية مما استفاد هذا السائح من العقول المستقيمة والقلوب المنوَّرة ذكر في المرتبة الثالثة عشرة من المقام الأول ما يأتي:

[لا إله إلّا الله الواجب الوجود الذي دل على وجوب وجوده في وحدته إجماعُ العقول المستقيمة المنوّرة، باعتقاداتها المتوافقة وبقناعاتها، ويقيناتها المتطابقة، مع تخالف الاستعدادات والمذاهب، وكذا دل على وجوب وجوده في وحدته اتفاقُ القلوب السليمة النورانية، بكشفياتها المتطابقة وبمشاهداتها المتوافقة، مع تباين المسالك والمشارب] .

ثم إن ذلك السائح الذي نظر إلى عالم الغيب من قريب وتجوّل في عالمَي العقل والقلب، أخذ يطرق باب ذلك العالم بهذا النمط من التفكير: «يا ترى ماذا يقول عالَم الغيب؟». إذ مادمنا نرى في عالم الشهادة الجسماني هذا أنَّ المحتجب وراء ستار الغيب سبحانه يعرّف نفسه لنا بهذا القدر الهائل من مصنوعاته المزينة المتقنة، ويسوقنا إلى محبته بهذا القدر الذي لا يحصى من نعمه اللذيذة الطيبة، ويخبرنا عن كمالاته الخفية بهذا القدر الزاخر من آثاره الخارقة البديعة.. نعم، إن الذي يعرّف نفسه ويحببها فعلا وبلسان الحال الذي هو أبيَنُ من الكلام والتكلم؛ لابد أنه سيتكلم قولاً وتكلُّما مثلما يتكلم فعلا وحالا، معرّفا نفسه ومحببا ذاته.

لذا خاطب السائح نفسه قائلا: «علينا أن نَعرفه سبحانه من مظاهر ألوهيته وربوبيته في عالم الغيب». فغاص قلبُه في الأعماق ورأى بعين عقله أن حقيقة «الوحي الإلهي» مهيمنة كل حين -بظواهر في غاية القوة والوضوح- على أرجاء عالم الغيب كافة. فتأتي الشهادة لوجوده وتوحيده سبحانه من لدن علام الغيوب. وهي شهادة الوحي والإلهام وهي أقوى بكثير من شهادة الكائنات والمخلوقات؛ إذ لا يَدَع سبحانه تعريف ذاته ولا دلائل وجوده ووحدانيته، محصورا في شهادة مخلوقاته وحدها، بل يتكلم كلاما أزليا يليق بذاته، فلا حدّ ولا نهاية لكلامِ مَن هو حاضر وناظر بقدرته وعلمه في كل مكان. ومثلما يعرّفه معنىً كلامُه، فإن تكلمَه أيضا يعرّفه بصفته.

نعم، إن تواتر مائةِ ألف من «الأنبياء عليهم السلام» واتفاقَهم في جميع إخباراتهم الصادرة من الوحي الإلهي، ودلائل ومعجزات الكتب المقدسة والصحف السماوية التي هي الوحي المشهود وثماره، والتي صدّقتْها الأكثريةُ المطلقة للبشرية واقتدت بها، واهتدت بهديِها..

Yükleniyor...