ولكن إذا أمدّه «الإيمان بالآخرة» وأغاثه، فسرعان ما يسترجع صوابه ويسترشد بعقله، ويخاطب نفسه قائلا:

«على الرغم من أن شرطة الحكومة وعيونها لا يمكنهم رؤيتي لكوني في خفاء عنهم، فإن ملائكة السلطان الأعظم ذي الجلال الذي يملك سجن جهنم ذلك السجن الأكبر الدائم يسجلون علىّ سيئاتي.. فأنا إذن لست طليقا مفلت الزمام، بل أنا ضيف عابر ذو مهمة.. وسأكون -لا محالة- في يوم ما ضعيفا وشيخا مثلهم». فتترشح قطراتُ الرحمة والرأفة والشفقة -عندئذٍ- من أعماق قلبه، ويشعر بالاحترام لأولئك الذين كان يريد أن يتعدى على حقوقهم ظلما. وحيث إن رسائل النور قد وضّحتْ هذا المعنى، نقتصر على هذا القدر.

وكذلك «المرضى والمظلومون وأمثالنا من ذوي المصائب والفقراء والمساجين» الذين حوكموا بعقوبات مشددة، كل هؤلاء يمثلون الجزء الأهم من البشرية، فإن لم يُعِنْهم «الإيمان بالآخرة» وإن لم يتسلوا به فإن الموت الذي يجدونه أمامهم دائما بما عندهم من مرض، وإن الإهانة التي يرونها من الظَلَمة -دون أن يتمكنوا من الاقتصاص منهم ولا من إنقاذ شرفهم وكرامتهم من بين مخالبهم- وإن اليأس الأليم النابع مما أصاب أموالهم وأولادهم من الضياع في الكوارث، وإن الضيق الشديد الناشئ من آلام السجن وعذابه لسنوات عدة نتيجة لذة طارئة لا تستغرق دقائق أو ساعات.. كل ذلك يُصيّر الدنيا -بلا ريب- سجنا كبيرا لهؤلاء المنكوبين ويجعل الحياة نفسها عذابا أليما لهم! ولكن ما إن يُمِدّهم الإيمان بالآخرة بالعزاء والسلوان إلّا وينشرحون فورا، ويتنفسون الصعداء، لما يزيل عنهم من الضيق واليأس والقلق والاضطراب وسَورة الثأر إزالة كلية أو جزئية كلٌ حسب درجات إيمانه.

حتى يمكنني القول: إنه لولا الإيمان بالآخرة الذي أمدّني وإخواني في مصيبتنا الرهيبة ودخولنا السجن هذا -دون ذنب اقترفناه- لكان تحمّلُ مرارةِ يوم واحد من أيام العذاب كالموت نفسه، ولساقتنا هذه المصيبة إلى ترك الحياة ونبذها. ولكن شكرا لله -بلا عد ولا حد- أن جعلني أتحمل آلام كثير من إخواني الذين هم أحب إليّ من نفسي وأتحمل ضياع آلاف من رسائل النور التي هي أعزّ من عيوني، وأتحمل فقدان كثير من مجلداتي الزاهية الثمينة جدا.. فأتحمل كل هذا الحزن والأسى بذلك «الإيمان بالآخرة»، رغم أنني ما كنت أتحمل أية إهانة

Yükleniyor...