نعم، إن تَسارُع أرزاق الأشجار إليها -وهي المحتاجة للرزق- دون أن يكون لها اقتدار ولا اختيار ولا إرادة وهي ساكنة في أماكنها متوكلةً على الله.. وكذا سيلان الحليب المصفَى من تلك المضخات العجيبة إلى أفواه الصغار العاجزين، وانقطاعُ تلك النفقة مباشرةً عنهم بعد اكتسابهم جزءا من الاقتدار وشيئا من الاختيار والإرادة، مع استمرار تلك الشفقة الموهوبة للأمهات.. كل ذلك؛ لَيثبتُ بداهةً أن الرزق الحلال لا يأتي متناسبا مع القدرة والإرادة وإنما يأتي متناسبا مع الضعف والعجز اللذين يمنحان التوكل.

ولقد ساق وجود قوة الاقتدار والاختيار والذكاء -المثير للحرص القائد إلى الحرمان على الأغلب- أولئك الأدباءَ الذين يستشعرون بها، إلى التذلل وإلى ما يشبه التسوّل، بينما أوصل عدمُ الاقتدار المكللُ بالتوكل أغلبَ العوام البُله إلى الثراء والغنى، حتى سار مثلا:

كم عالِمٍ عالمٍ أعيتْ مذاهبُه وجاهلٍ جاهلٍ تلقاهُ مرزوقا (11)

مما يثبت أن الرزق الحلال لا يحصل عليه المخلوقُ ولا يجده بقوة الاقتدار والاختيار، وإنما يُعطَى له من لدن مرحمةٍ قد قَبِلت كدَّه وسعيَه، ويُحسَن إليه من عند شفقة ورأفة رقّت على احتياجه وافتقاره، غير أن الرزق نوعان:

الأول: الرزق الحقيقي والفطري للمعيشة، الذي هو تحت التعهد الرباني، وهو مقدّر بحيث إن المدّخَر منه في الجسم بصورة دهون أو بصور أخرى يمكنه أن يعيّش الإنسانَ ويديم حياتَه أكثر من عشرين يوما دون أن يذوق طعاما. فالذين يموتون جوعا في الظاهر قبل عشرين أو ثلاثين يوما من دون أن ينفد رزقُهم الفطري لا ينشأ موتُهم من انعدام الرزق، بل من مرض ناشئ من سوء التعود ومن ترك العادة.

والقسم الثاني من الرزق: هو الرزق المجازي والاصطناعي الذي يكون بحكم الضروري بعد أن يدمن الإنسان عليه بالتعود والإسراف وسوء الاستعمال. وهذا القسم ليس ضمن التعهد الرباني وتكفله بل هو تابع إلى إحسانه سبحانه. فإما إن يمنحه أو يمنعه.


Yükleniyor...