الرؤيةَ آلافٌ من الوجهاء والعلماء قائلين: «إننا لم نرَ الهلال». فإن نفيهم هذا يبقى غيرَ ذي قيمة أو أهمية؛ ذلك لأن ب«الإثبات» يؤازر الواحدُ الآخرَ ويقويه، ففيه تساند واجتماع. بينما «النفي» لا فرق فيه أن يكون صادرا من شخص واحد أو من ألف شخص؛ إذ النافي منفردٌ باعتبار أنه وحده الذي ينفي. ذلك لأن المُثبِت ينظر إلى الأمر نفسه ثم يُصدِر حكمَه، كما هو الحال في مثالنا، إذا قال أحدهم: هو ذا الهلال في السماء؛ فإن الآخر يصدّقه ويؤيده مشيرا إلى المكان نفسه، فيشتركان في النظر إلى المكان نفسه، فيتساندان، ويَقوَى حكمُهما ويرسخ. أما في النفي والإنكار فالنافي لا ينظر إلى الأمر نفسه ولا يسعه ذلك، لذا أصبحت القاعدةُ: «لا يمكن إثبات النفي غيرِ الخاص وغيرِ المحددِ مكانُه» قاعدةً مشهورة.

مثال ذلك: إذا أثبتُّ لك وجود شيء معين في الدنيا، وأنكرتَ أنت وجوده في الدنيا. فينبغي لك أن تقوم بالبحث والتحري عنه في أرجاء الدنيا كافة لتُثبت عدمَ وجود ذلك الشيء الذي أتمكن بنفسي أن أُثبته بمنتهى السهولة وبإيماءة بسيطة مني إليه، بل عليك أن تغوص أيضا في أعماق الأزمنة الغابرة، حتى تستطيع أن تقول: «لا يوجد فعلا... لم تحدث حادثة كهذه!».

ولما كان النافون والمنكِرون لا ينظرون إلى الأمر بذاته، وإنما يُصدرون أحكامهم حسب أنفسهم، ووفق عقولهم ونظراتهم؛ لذا لا يمكن أن يساند أحدُهم الآخرَ وأن يكون ظهيرا له؛ ذلك لأن حُجُب الرؤية مختلفة لديهم، والأسبابَ المانعة للمعرفة متنوعة عندهم. إذ يستطيع كل شخص أن يقول: «إنني لا أرى الشيء الفلاني».. «وعندي أنه غير موجود».. «وباعتقادي أنه لا يوجد».. ولكنه لا يمكنه أن يقول: «إنه فعلا لا يوجد». وإذا قال بهذا النفي -وبخاصة في المسائل الإيمانية التي تشمل الكون كله- فإن كلامه يكون إفكا عظيما وكذبا كبيرا بكبر الدنيا، ولن يكون صدقا قط ولا يمكن أن يُستصوب أو يقوّم أبدا.

نخلص مما تقدم: أنَّ النتيجة في الإثبات واحدة، وأن فيه تساندا، أما في النفي فالنتيجةُ ليست واحدة بل متعددة، إذ القيود: «عندي».. «في نظري».. «وباعتقادي».. وأمثالها من الأسباب التي تحجب الرؤيةَ الصحيحة تتعدد وتختلف باختلاف الأشخاص؛ لذا تأتي النتائج متعددة أيضا، ومتفرقة، فلا يحصل التساند مطلقا.

Yükleniyor...