الله عن ذلك علوا كبيرا- بمنـزلة من يبني قصرا عظيما يضع في كل حجر فيه آلاف النقوش والزخارف، وفي كل زاوية فيه آلاف الزينة والتجميل، وفي كل غرفة فيه آلاف الآلات الثمينة والحاجيات الضرورية.. ثم لا يبني له سقفا ليحفظه؟! فيتركه ويترك كل شيء للبلى والفساد! حاشَ لله.. إن الخير يصدر من الخير المطلق، وإن الجمال يصدر من الجميل المطلق، فلن يصدر من الحكيم المطلق العبثَ البتة.

نعم، إن كل من يمتطي التاريخ ويذهب خيالا إلى جهة الماضي سيرى أنه قد ماتت بعدد السنين منازلُ ومعارضُ وميادين وعوالمُ شبيهة بمنـزل الدنيا وميدان الابتلاء ومعرض الأشياء في وقتنا الحاضر. فعلى الرغم مما يُرى من اختلاف بعضها عن البعض الآخر صورةً ونوعا، فإنها تتشابه في الانتظام والإبداع وإبراز قدرة الصانع وحكمته.

وسيرى كذلك -ما لم يفقد بصيرته- أن في تلك المنازل المتبدلة، وفي تلك الميادين الزائلة، وفي تلك المعارض الفانية.. من الأنظمة الباهرة الساطعة للحكمة، والإشارات الجليّة الظاهرة للعناية، والأمارات القاهرة المهيمنة للعدالة، والثمار الواسعة للرحمة ما سيدرك يقينا أنه:

لا يمكن أن تكون حكمة أكملَ من تلك الحكمة المشهودة، ولا يمكن أن تكون عناية أروع من تلك العناية الظاهرة الآثار، ولا يمكن أن تكون عدالة أجلّ من تلك العدالة الواضحة أماراتها. ولا يمكن أن تكون رحمة أشملَ من تلك الرحمة الظاهرة الثمار.

وإذا افتُرض المحال، وهو أن السلطان السرمدي -الذي يدير هذه الأمور، ويغيّر هؤلاء الضيوف والمستضافات باستـمرار- ليست له منـازل دائمة ولا أماكن راقية سامية ولا مقامات ثابتة ولا مساكنُ باقية ولا رعايا خالدون، ولا عباد سعداء في مملكته الخالدة. يلزم عندئذٍ إنكار الحقائق الأربعة: «الحكمة والعدالة والعناية والرحمة» التي هي عناصر قوية شاملة، كالنور والهواء والماء والتراب، وإنكار وجودها الظاهر ظهور تلك العناصر. لأنه من المعلوم أن هذه الدنيا وما فيها لا تفي لظهور تلك الحقائق، فلو لم يكن هناك في مكان آخر ما هو أهل لها، فيجب إنكار هذه الحكمة الموجودة في كل شيء أمامنا -بجنون من ينكر الشمس الذي يملأ نورُها النهار- وإنكار هذه العناية التي نشاهدها دائما في أنفسنا وفي أغلب الأشياء.. وإنكار هذه العدالة الجلية الظاهرة


Yükleniyor...