يده قصيرة لا تملك قدرة الإيجاد. والوجهُ الآخر متوجّه إلى الشر، ويُفضي إلى العدم؛ فهو في هذا الوجه فاعل، وصاحبُ فعل.

ثم إنّ ماهية « أنا » حرفية، أي يدل على معنىً في غيره، فربوبيتُه خيالية، ووجودُه ضعيف وهزيل إلى حدٍ لا يطيق أن يحمل بذاته أيَّ شيء كان، ولا يطيق أن يُحمَل عليه شيء، بل هو ميزان ليس إلّا؛ يبيّن صفات الله تعالى التي هي مطلقة ومحيطة بكل شيء، بمثل ما يبيّن ميزانُ الحرارة وميزانُ الهواء والموازين الأخرى مقاديرَ الأشياء ودرجاتِها.

فالذي يَعرف ماهية « أنا » على هذا الوجه، ويذعن له، ثم يعمل وفق ذلك وبمقتضاه، يدخل ضمن بشارة قوله تعالى: ﹛﴿ قَدْ اَفْلَحَ مَنْ زَكّٰيهَاۙ ﴾|﹜ (الشمس:٩) ويكون قد أدّى الأمانةَ حقَّها، فيدرك بمنظار « أنا » حقيقةَ الكائنات والوظائفَ التي تؤديها. وعندما تَرد المعلوماتُ من الآفاق الخارجية إلى النفس تجد في «أنا» ما يصدّقُها، فتستقر تلك المعلوماتُ علوما نورانية وحكمةً صائبة في النفس، ولا تنقلب إلى ظلمات العبثية.

وحينما يؤدي « أنا » وظيفتَه على هذه الصورة، يترك ربوبيتَه الموهومة ومالكيتَه المفترضة -التي هي وحدةُ قياس ليس إلّا- ويفوّض المُلكَ لله وحدَه قائلا: «له الملكُ، وله الحمدُ، وله الحكمُ وإليه تُرجعون ». فيلبس لباسَ عبوديتِه الحقّة، ويرتقي إلى مقامِ «أحسن تقويم».

ولكن إذا نسي « أنا » حكمةَ خلقه، ونظر إلى نفسه بالمعنى الاسمي، تاركا وظيفتَه الفطرية، معتقدا بنفسه أنه المالكُ، فقد خان الأمانةَ، ودخل ضمن النذير الإلهي: ﹛﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّٰيهَا ﴾|﹜ (الشمس:١٠).

وهكذا فإن إشفاقَ السماوات والأرض والجبال من حمل الأمانة، ورهبَتهن من شركٍ موهوم مفتَرض، إنما هو من هذا الوجه من «الأنانية» التي تُولِّد جميعَ أنواع الشرك والشرور والضلالات.

أجل، إنّ « أنا » مع أنه ألف رقيق، خيط دقيق، خط مفترض، إلّا أنه إن لم تُعرف ماهيتُه ينمو في الخفاء، كنمو البذرة تحت التراب، ويكبُر شيئا فشيئا، حتى ينتشر في جميع أنحاء وجود الإنسان، فيبتلعَه ابتلاع الثعبان الضخم، فيكون ذلك الإنسانُ بكامله وبجميع لطائفه ومشاعره عبارة عن « أنا ». ثم تمدّه « أنانية » النوع نافخةً فيه روحَ العصبية النوعية والقومية، فيستغلظ


Yükleniyor...