النافذة التاسعة والعشرون

﹛﴿ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه۪ ﴾|﹜ (الإسراء:٤٤)


كنتُ سارحا في رفقة غربتي، أسوح مع الفكر، وأجول مع الخيال والتأمل، فقادتني قدماي إلى سفح رابية مزدانة بالخضرة، فرنت إليَّ -على استحياء- من وسط هذا البساط الأخضر، زهرةٌ صفراء ساطعة الصفرة، وألوَت بجيدِها إليَّ تناغيني بودّ ومحبَّة، فأثارت مشاعري وأشواقي إلى زهراتٍ مثلها كنتُ التقيها في ربوع بلدتي «وان» وفي سائر المدن الأخرى التي كانت تحتضن غربتي مرةً بعد أخرى، فانثال هذا المعنى فجأةً على قلبي، وها أنذا أسرده كما ورد:

هذه الزهرة الرقيقة ليست إلاّ طغراء على صفحة الجمال، وختما يختم به خالقُ الجمال رسالتَه الخضراء إلى العالم. فَمَن كانت هذه الزهرة طغراءه ونقشَه على البساط الأخضر فإن جميع الأنواع من هذه الزهرة إذن هي أختامُه على بسط الأرض جميعا، وعلاماتُ وحدة صنعه.

وعقب هذه الصورة المتخيلة ورد إلى القلب هذا التصور؛ إن الختم المختومَ به أية رسالة كانت، إنما يدل على صاحب الرسالة. فهذه الزهرة إنما هي ختم رحماني على رسالة الرحمن. وهذه الرسالة هي سفح التل الصغير المسطور فيها الكلمات البليغة للنباتات والأعشاب، والمحفور فوقها أنواع الزخارف الحكيمة الإتقان. فهذه الرسالة إذن تعود لصاحب الختم هذا.

ثم أوغلتُ في التأمل أكثر فأكثر، فإذا بهذا السفح الجميل يتحول في نظري ويأخذ صورةَ ختمٍ كبير وواضحٍ على رسالة هذه الفلاة الممتدة بعيدا. وانتصب السهل المنسبط أمام خيالي رسالةً رحمانيةً رائعةً، ختمُها هذا السفح الجميل. وقد أفضى بي هذا التصور إلى هذه الحقيقة:

كما أن كلّ ختم على أية رسالة يشير إلى صاحبها، فكل شيء كالختم يُسنِد جميعَ الأشياء التي تحيط به إلى خالقه الرحيم، وكأنه ختم رحماني. فكل شيء من حوله يمثل رسالةً لخالقه الرحيم. وهكذا، فما من شيء إلّا ويغدو نافذةَ توحيدٍ عظيمة إلى حد يسلّم جميعَ الأشياء إلى الواحد الأحد.. كل شيء ولا سيما الأحياء يملك من النقوش الحكيمة والإتقان البديع بحيث إن الذي خلقه على هذه الصورة البديعة قادر على خلق جميع الأشياء، أي إن الذي لا يستطيع أن يخلق جميع الأشياء لا يمكن أن يخلق شيئا واحدا.


Yükleniyor...