التي كانت تزخر بالحياة فوقها؛ فإن منظر هذا الموت ينقل نظرَ الإنسان إلى أبعد من اللحظة الراهنة، فيركب متنَ الخيال ليذهب بعيدا إلى الماضي الذي درجت إليه جنائزُ كلِّ ربيع راحل، فتتفتح عندئذ أمام النظر مشاهد من الموت والحياة أوسع من هذا المنظر المحصور في الحاضر الراهن. لأنّ كل ربيع راحل مما لا يُحصى من الأربِعَةِ، كان مشحونا ملء الأرض بمعجزات القدرة الإلهية، وهو يُشعِرُ الإنسان بمجيء موجوداتٍ تتدفق بالحياة وتملأ الأرض كلَّها في ربيع مُقبِل.

فنجد بهذا أن موت الربيع يشهد شهادة بمقياس عظيم جدا، وبصورة رائعة جدا وبدرجة من القوة أكثر، على الخالق ذي الجلال، والقدير ذي الكمال، والحي القيوم، والنور السرمدي، ويشير إلى وحدانيته، وسرمديته تبارك وتعالى. فيبين هذا الموت دلائلَ باهرة إلى حدّ يرغمك معه على القول بداهةً: «آمنت بالله الواحد الأحد».

الخلاصة: إنه حسب الحكمة التي تتضمنها الآيةُ الكريمة: ﹛﴿ وَيُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾|﹜ (الروم:١٩) فإن الأرض الحية هذه كما أنها تشهد على الخالق الحكيم سبحانه بحياتها، فإنها بموتها تلفت النظر إلى التأمل في معجزات القدرة الإلهية التي تطرز جناحَي الزمن؛ الماضي والمستقبل، فيعرض الله سبحانه بهذا الموت أمام نظر الإنسان ألوفا من الأربِعَةِ بدلا من ربيع واحد، فبدلا من أن تشهد على قدرته سبحانه معجزةٌ واحدة وهي هنا «الربيع الحاضر» تشهد عليها بهذا الموت الذي حلَّ في الربيع الحاضر ألوفُ المعجزات.

فكل ربيع من تلك الألوف من الأربِعَةِ، يشهد شهادة أقوى على الوحدانية من الربيع الحاضر، لأن الذي ارتحل إلى جهة الماضي قد ارتحل إليه بأسباب قدومه الظاهرة التي ليس لها صفةُ البقاء، فالأسباب التي تذهب وتأتي ليس لها إذن تأثير قط في إحلال ربيع جديد عقب الربيع الراحل، بل القديرُ ذو الجلال الذي لا يحول ولا يزول هو الذي خلقه من جديد وربطه بحكمته بالأسباب الظاهرة، وأرسله على الصورة الرائعة إلى ميدان الشهود.

أما وجوه الأرض التي ستأتي في المستقبل، والمُزهرة بالربيع النابض بالحياة، فهي تشهد شهادةً أقوى من شهادتها على الربيع الحاضر، لأن كل ربيع يأتي في المستقبل إنما يأتي إليها من العدم، ومن غير شيء، ويُبعث إلى المكان المعين، ومن ثمة تُحمَّلُ عليه وظيفة خاصة.


Yükleniyor...