الواسع المطلق يتطلب إكراما غير متناه، والرحمة التي وسعت كل شيء تستدعي إحسانا يليق بها، بينما لا يتحقق من كل ذلك في هذه الدنيا الفانية والعمر القصير إلّا جزء ضئيل جدا هو كقطرة من بحر.

فلابد أن تكون هناك دار سعادة تليق بذلك الكرم العميم، وتنسجم مع تلك الرحمة الواسعة.. وإلّا يلزم جحودُ هذه الرحمة المشهودة، بما هو كإنكار وجود الشمس التي يملأ نورُها النهارَ، لأن الزوال الذي لا رجعةَ بعده يستلزم انتفاء حقيقة الرحمة من الوجود، بتبديله الشفقةَ مصيبةً، والمحبة حرقةً، والنعمة نقمةً واللذة ألما، والعقلَ المحمود عضوا مشؤوما.

وعليه فلابد من دار جزاء تناسب ذلك الجلال والعزة وتنسجم معها. لأنه غالبا ما يظل الظالمُ في عزته، والمظلومُ في ذلته وخنوعه، ثم يرحلان على حالهما بلا عقاب ولا ثواب.

فالأمر إذن ليس إهمالا قط، وإن أمهلَت إلى محكمة كبرى، فالقضية لم تُهمل ولن تُهمل، بل قد تُعَجّل العقوبة في الدنيا. فإنزال العذاب في القرون الغابرة بأقوام عصت وتمردت يبين لنا أن الإنسان ليس متروكا زمامُه، يسرح وفق ما يملى عليه هواه، بل هو معرّض دائما لصفعات ذي العزة والجلال.

نعم، إن هذا الإنسان الذي أنيط به -من بين جميع المخلوقات- مهام عظيمة، وزوّد باستعدادات فطرية كاملة، إن لم يعرف ربَّه «بالإيمان» بعد أن عرّف سبحانه نفسَه إليه بمخلوقاته البديعة المنتظمة.. وإن لم ينل محبته بالتقرب إليه بـ«العبادة» بعد أن تحبّب إليه سبحانه بنفسه وعرّفها إليه بما خلق له من الثمار المتنوعة الجميلة الدالة على رحمته الواسعة.. وإن لم يقم بالتوقير والإجلال اللائقين به «بالشكر والحمد» بعد أن أظهر سبحانه محبته له ورحمته عليه بنعمه الكثيرة.. نعم، إن لم يعرف هذا الإنسان ربَّه هكذا، فكيف يُترك سدى دون جزاء، ودون أن يعدّ له ذو العزة والجلال دارا للعقاب؟

وهل من الممكن أن لا يمنح ذلك الرب الرحيم دار ثوابٍ وسعادة أبدية، لأولئك المؤمنين الذين قابلوا تعريفَ ذاته سبحانه لهم بمعرفتهم إياه بـ«الإيمان» ومحبته لهم، بالحب والتحبب له بـ«العبادة»، ورحمته لهم بالإجلال والتوقير له بـ«الشكر»؟


Yükleniyor...