فمثلا: الضياءُ الدائم الذي لا يتخلله ظلام لا يُشعَر به ولا يُعرَف وجودُه إلّا إذا حُدّد بظلمةٍ حقيقية أو موهومة.

وهكذا، فإنّ صفات الله سبحانه وتعالى، كالعلم والقدرة، وأسماءَه الحسنى، كالحكيم والرحيم، لأنها مطلقة لا حدودَ لها ومحيطة بكل شيء، لا شريك لها ولا نِدّ، لا يمكن الإحاطةُ بها أو تقييدُها بشيء، فلا تُعرَف ماهيتُها، ولا يُشعَر بها؛ لذا لابد من وضعِ حدٍّ فَرضي وخيالي لتلك الصفات والأسماء المطلقة، ليكون وسيلةً لفهمها، حيث لا حدودَ ولا نهاية حقيقية لها. وهذا ما تفعلُه «الأنانيةُ» أي ما يقوم به « أنا »؛ إذ يتصوّرُ في نفسه ربوبيةً موهومةً، ومالكيةً مفترضة وقدرة وعلما، فيَحدُّ حدودا معينة، ويضعُ بها حدا موهوما لصفاتٍ محيطةٍ وأسماء مطلقة. فيقول مثلا: من هنا إلى هناك لي، ومن بعده يعود إلى تلك الصفات. أي يضع نوعا من تقسيم الأمور، ويستعدّ بهذا إلى فهم ماهية تلك الصفات غير المحدودة شيئا فشيئا، وذلك بما لديه من موازينَ صغيرة ومقاييسَ بسيطة.

فمثلا: يَفهم بربوبيته الموهومة التي يتصوّرها في دائرة مُلكه، ربوبيةَ خالقِه المطلقة سبحانه وتعالى في دائرة الممكنات. ويدرك بمالكيته الظاهرية، مالكيةَ خالقه الحقيقية، فيقول: كما أنني مالك لهذا البيت فالخالقُ سبحانه كذلك مالك لهذا الكون... ويعلم بعِلمه الجزئي، علمَ الله المطلق... ويعرف بمهارتِه المكتسبة الجزئية، بدائعَ الصانع الجليل، فيقول مثلا: كما أنني شيدتُ هذه الدار ونظّمتُها، كذلك لابد من منشئٍ لدار الدنيا ومنظّمٍ لها.

وهكذا.. فقد اندرجت في « أنا » آلافُ الأحوال والصفاتُ والمشاعر المنطوية على آلاف الأسرار المغلقة التي تستطيع أن تدلّ وتبيّن -إلى حدٍ ما- الصفاتِ الإلهية وشؤونَها الحكيمة كلَّها. أي إن « أنا » لا يحمل في ذاته معنىً، بل يدلّ على معنىً في غيره ؛ كالمرآة العاكسة، والوحدةِ القياسية، وآلةِ الانكشاف، والمعنى الحرفي، فهو شعرة حساسة من حبل وجود الإنسان الجسيم . وهو خيط رفيع من نسيج ثوب ماهية البشر.. وهو حرفُ « ألفٍ » في كتاب شخصية بنى آدم، بحيث إنّ ذلك الحرف له وجهان:

وجه متوجّه إلى الخير والوجود؛ فهو في هذا الوجه يتلقى الفيضَ ويقبَله فحسب، أي يقبل الإفاضة عليه فقط؛ إذ هو عاجز عن إيجاد شيء في هذا الوجه، أي ليس فاعلا فيه، لأن


Yükleniyor...