دركات الكذب. فالذي أهوى بمسيلمة إلى تلك الدركات الهابطة الدنيئة هو الكذب، والذي رفع محمدا الأمين ﷺ إلى تلك الدرجات الرفيعة هو الصدقُ والاستقامة.

لذا فالصحابة الكرام رضوان الله عليهم الذين كانوا يملكون الهمم العالية والخُلق الرفيع واستناروا بنور صحبة شمس النبوة، لا ريب أنهم ترفّعوا عن الكذب الممقوت القبيح الموجود في بضاعة مسيلمة الكذاب ونجاساتها الموجبة للذلة والهوان -كما هو ثابت- وتجنّبوا الكذبَ كتجنبهم الكفر الذي هو صنوُه، وسعوا سعيا حثيثا في طلب الصدق والاستقامة والحق، وتحرّوه بكل ما أوتوا من قوة وعزم، فشغفوا به ولا سيما في رواية الأحكام الشرعية وتبليغها، تلك الأحكام المتسمة بالحسن وبالجمال القمينة بالمباهاة والفخر، والتي هي وسيلة للعروج صعدا إلى الرقي والكمال، والموصولة السبب بعظمة الرسول ﷺ الذي تنورت بنور شعاعه الحياة البشرية.

أمَّا الآن، فقد ضاقت المسافةُ بين الكذب والصدق، وقصُرت حتى صارا متقاربَين بل متكاتفَين، وبات الانتقال من الصدق إلى الكذب سهلا وهينا جدا بل غدا الكذبُ يفضُل على الصدق في الدعايات السياسية. فإن كان أجملُ شيء يباع مع أقبحه في حانوت واحد جنبا إلى جنب وبالثمن نفسه، فلا ينبغي على مشتري لؤلؤة الصدق الغالي أن يعتمد على كلام صاحب الحانوت ومعرفته دون فحص وتمحيص.

الخاتمة

تتبدل الشرائعُ بتبدل العصور، وقد تأتي شرائعُ مختلفة، وتُرسل رسل كرام في عصر واحد، حسب الأقوام. وقد حدث هذا فعلا.

أما بعد ختم النبوة، وبعثة خاتم الأنبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة والسلام، فلم تعد هناك حاجة إلى شريعة أخرى، لأن شريعته العظمى كافية ووافية لكل قوم في كل عصر.

أمَّا جزئيات الأحكام غير المنصوص عليها التي تقتضي التبديل تبعا للظروف، فإن اجتهادات فقهاء المذاهب كفيلة بمعالجة التبديل. فكما تُبدّل الملابسُ باختلاف المواسم، وتُغيّر الأدوية حسب حاجة المرضى، كذلك تُبدل الشرائعُ حسب العصور، وتدور الأحكام

Yükleniyor...