فمثلا: أين عينُ الإنسان التي تميّز جميعَ مراتب الحسن والجمال؟ وأين حاستُه الذوقية التي تميّز بين مختلف المطعومات بلذائذها الخاصة؟ وأين عقلُه الذي ينفذ إلى قرارة الحقائق وإلى أدق تفاصيلها؟ وأين قلبُه المشتاق المتلهّف إلى جميع أنواع الكمال؟ أين كل هذه الأجهزة وأمثالها مما في الآلات الحيوانية البسيطة التي قد لا تنكشف إلّا لحد مرتبتين أو ثلاث!! فيما عدا الأعمال الخاصة المناطة بجهاز خاص في حيوان معين، والذي يؤدي عمله بشكل قد يفضُل ما عند الإنسان الذي ليس من مهمته مثل هذه الأعمال والوظائف.

والسرُّ في وَفْرَةِ الأجهزة التي مُنحت للإنسان وغِناها هو: أن حواسَّ الإنسان ومشاعرَه قد اكتسبت قوةً ونماءً وانكشافا وانبساطا أكثر؛ لما يملك من الفكر والعقل، فقد تبايَن كثيرا مدى استقطاب حواسه، نظرا لتباين وكثرة احتياجاته. لذا تنوعت أحاسيسُه وتعددت مشاعرُه.. ولأنه يملك فطرةً جامعةً فقد أصبح محورا لآمالٍ ورغباتٍ عدة ومدارا للتوجّه إلى مقاصدَ شتّى.. ونظرا لكثرة وظائفه الفطرية فقد انفرجت أجهزتُه وتوسّعت.. وبسبب فطرته البديعة المهيأة لشتى أنواع العبادة فقد مُنح استعدادا جامعا لبذور الكمال؛ لذا لا يمكن أن تُمنح له هذه الأجهزة الوفيرة إلى هذه الدرجة الكثيفة لتحصيل هذه الحياة الدنيوية المؤقتة الفانية فحسب، بل لابد أن الغايةَ القصوى لهذا الإنسان هي أن يفي بحق وظائفه المتطلعة إلى مقاصدَ لا نهاية لها، وأن يعلن عن عجزِه وفقرِه أمام الله تعالى بعبوديته، وأن يرى بنظره الواسع تسبيحات الموجودات، فيشهد على ذلك ويطّلع على ما تمدّه الرحمة الإلهية من إنعام وآلاء فيشكر الله عليها، وأن يُعاين معجزات القدرة الربانية في هذه المصنوعات فيتفكر فيها ويتأمل وينظر إليها نظر العبرة والإعجاب.

فيا عابدَ الدنيا وعاشقَ الحياة الفانية الغافلَ عن سر «أحسَنِ تقويم»! استمع إلى هذه الواقعة الخيالية التي تتمثل فيها حقيقةُ حياةِ الدنيا. تلك الواقعة التمثيلية التي رآها «سعيد القديم» فحوّلته إلى «سعيد الجديد» وهي: أني رأيتُ نفسي كأني أسافر في طريقٍ طويلة، أي أرسَل إلى مكانٍ بعيد، وكان سيدي قد خصّص لي مقدارَ ستين ليرة ذهبية يمنحني منها كلَّ يومٍ شيئا، حتى دخلتُ إلى فندقٍ فيه ملهى فطفقتُ أبذّر ما أملك، وهي عشرُ ليرات، في ليلةٍ واحدة على مائدة القمار والسهر في سبيل الشهرة والإعجاب. فأصبحتُ وأنا صُفر اليدين لم أتّجر بشيء، ولم آخذ شيئا مما سأحتاج إليه في المكان الذي أقصده، فلم أوفّر لنفسي سوى


Yükleniyor...