الإشارة الثالثة

إنّ الموازنة الموجودة في تعابير: ﹛﴿ اَحْسَنُ الْخَالِق۪ينَ ﴾|﹜ «الله أكْبَـرُ» ﹛﴿ خَيْرُ الْفَاصِل۪ينَ ﴾|﹜ (خَيرُ المحسِنين) وأمثالِها، ليست موازنة وتفضيلا بين صفات واقعية لله سبحانه وتعالى، والمالكين لنماذجَ تلك الصفات والأفعال، لأن جميع الكمالات الموجودة في الكون قاطبة في الجن والإنس والملَك، ظل ضعيف بالنسبة لكماله جل وعلا، فكيف يمكن عقدُ موازنة بينهما؟ وإنما الموازنة هي بالنسبة لنظر الناس ولاسيما لأهل الغفلة.

نورد مثالا للتوضيح: جندي يقدّم أتم الولاء والطاعة لعريفه في الجيش، ويرى الحسنات والخيرات منه، وقد لا يخطر بباله السلطانُ إلّا نادرا، بل لو خطر بباله، فإنه يقدم امتنانَه وشكرَه أيضا إلى العريف، فيقال لمثل هذا الجندي: إنّ السلطانَ أكبرُ من عريفك، فقدّم شكرك إليه وحده. فهذا الكلام ليس موازنة بين القيادة المهيبة للسلطان في الواقع، وقيادة العريف الجزئية الصورية، لأنّ موازنةً كهذه، وتفضيلا من هذا النوع، لا معنى لهما أصلا. وإنما الموازنة معقودة حسب ما لدى الجندي من أهمية وارتباط بعريفه، بحيث يفضّله على غيره، فيقدم شكرَه وثناءه إليه، ويحبه وحده.

ومثل هذا، فالأسبابُ الظاهرية التي هي في وَهْمِ أهل الغفلة في حُكم خالقٍ، ومُنعمٍ، والتي تكون حجابا دون المنعم الحقيقي، إذ يتشبثون بها ويرون ورود النعمة والإحسان من تلك الحُجب والأسباب، فيقدمون ثناءهم ومدحهم إليها. يقول القرآن الكريم لهم: «الله أكْبَرُ». ﹛﴿ اَحْسَنُ الْخَالِق۪ينَ ﴾ ﴿ اَرْحَمُ الرَّاحِم۪ينَ ﴾|﹜ أي توجَّهوا إليه واشكروه.

الإشارة الرابعة

تُعقد الموازنةُ والتفضيل بين الموجودات الحقيقية مثلما تُعقد بين الأشياء الفرضية والإمكانية. ثم إنّ أكثر ماهيات الأشياء فيها مراتب متعددة، وكذا في ماهيات الأسماء الإلهية الحسنى والصفات الجليلة المقدسة يمكن أن توجد مراتب كثيرة. فالله سبحانه في أكمل تلك المراتب للصفات والأسماء من المراتب المتصوَّرة والممكنة، وفي أحسنها. والكون كلُّه وما فيه من كمالات شاهد صدق لهذه الحقيقة، وقوله تعالى: ﹛﴿ لَهُ الْاَسْمَٓاءُ الْحُسْنٰى ﴾|﹜ (الحشر:٢٤) وصف لأسمائه كلِّها يعبّر عن هذا المعنى.

Yükleniyor...