دقيقة ويدعو العقول إلى معرفتها. فلابدَّ لتقريرها في القلوب وتثبيتها في أفكار العامة من التكرار في صور مختلفة وأساليب متنوعة.

اعلم أنّ لكل آيةٍ ظهرا وبطنا وحدّا ومطلعا، ولكل قصةٍ وجوها وأحكاما وفوائد ومقاصد، فتُذكر في موضعٍ لوجهٍ، وفي آخر لأخرى، وفي سورةٍ لمقصدٍ وفي أخرى لآخر وهكذا. فعلى هذا لا تكرار إلَّا في الصورة.

أمَّا إجمال القرآن الكريم بعض المسائل الكونية وإبهامه في بعض آخر فهو لمعة إعجاز ساطع وليس كما توهمه أهلُ الإلحاد من قصور ومدار نقد.

فإن قلت: لأي شيء لا يبحث القرآن عن الكائنات كما يبحث عنها فن الحكمة والفلسفة؟ فَيَدع بعض المسائل مجملا ويذكر أخرى ذكرا ينسجم مع شعور العوام وأفكارهم فلا يمسّها بأذى ولا يرهقها بل يذكرها سلسا بسيطا في الظاهر؟

نقول جوابا: لأن الفلسفة عَدِلتْ عن طريق الحقيقة وضلَّت عنها، وقد فهمتَ حتما من الدروس والكلمات السابقة أنّ القرآن الكريم إنّما يبحث عن الكائنات استطرادا، للاستدلال على ذات الله وصفاته وأسمائه الحسنى، أي يُفهم معاني هذا الكتاب، كتاب الكون العظيم كي يعرِّف خالقه.

أي أنّ القرآن الكريم يستخدم الموجودات لخالقها لا لأنفسها. فضلا عن أنّه يخاطب الجمهور.

وعلى هذا، فمادام القرآن يستخدم الموجودات دليلا وبرهانا، فمن شرط الدليل أن يكون ظاهرا وأظهرَ من النتيجة أمام نظر الجمهور.

ثم إنّ القرآن مادام مرشدا فمن شأْن بلاغة الإرشاد مماشاة نظر العوام، ومراعاة حسّ العامةِ ومؤانسة فكر الجمهور، لئلا يتوحش نظرُهم بلا طائل ولا يتشوش فكرُهم بلا فائدة، ولا يتشرّد حسُّهم بلا مصلحة، فأبلغُ الخطاب معهم والإرشاد أن يكون ظاهرا بسيطا سهلا لا يعجزهم، وجيزا لا يُملّهم، مجملا فيما لا يلزم تفصيله لهم، ويضرب بالأمثال لتقريب ما دقَّ من الأمور إلى فهمهم.


Yükleniyor...