تنظر إليه حكمةُ الفلسفة نظرها إلى شيء عادي مألوف، بينما تلفت الأنظار إلى ذلك الإنسان المشوّه الذي شذّ عن كمال الخلقة، كأن يكون له ثلاثة أرجل أو رأسانِ مثلا، فتثيرُ حوله نظرَ العبرة والاستغراب.

ومثلا: إن إعاشة جميع الصغار من خزائن الغيب إعاشةً في منتهى الانتظام التي تمثل ألطف معجزة من معجزات رحمته تعالى وأعمّها في الوجود، تنظر إليها حكمة الفلسفة أنها أمر مألوف عادي، فتسترها بستار الكفران، بينما تلفت الأنظار إلى إعاشة حشرة شذَّتْ عن النظام وَنأتْ عن طائفتها وظلت وحيدة في الغربة فريدةً في أعماق البحر، فبدأت تقتاتُ على ورق نبات أخضرَ هناك حتى إنها لتثير أشجان الصيادين لما يتجلَّى منها من لطف وكرم بل وتدفعهم إلى البكاء والحزن. (1)

فشاهدْ في ضوء هذه الأمثلة ثروةَ القرآن الطائلةَ وغناه الواسع في معرفة الله في ميدان العلم والحكمة.. وإفلاسَ الفلسفة وفقرَها المدقع في دروس العبرة والعلم بمعرفة الصانع الجليل.

ولأجل هذا السر فالقرآن الكريم الذي هو جامع لحقائق باهرة ساطعة لا نهاية لها، مستغنٍ عن خيالات الشعر.. وثمةَ سبب آخر لتَنـزُّه القرآنِ عن الشعر هو أن القرآن مع أنه في أتم نظام خارق وأكمل انتظام معجز ويفسّر -بأساليبه المنتظمة- تناسقَ الصنعة الإلهية في الكون نراه غير منظوم، فكل آية من نجوم آياته لا تتقيد بنظام الوزن، لذا تصبح كأنها مركز لأكثر الآيات وشقيقتها. إذ تمثل خيوط العلاقة بين الآيات المترابطة في المعنى دائرة واسعة. فكأن كلَّ آيةٍ حرةٍ -غير مقيدة بنظام الوزن- تملك عيونا باصرة إلى أكثر الآيات، ووجوها متوجهة إليها.

ومن هذا نجد في القرآن الكريم آلافا من القرائين حتى إنه يَهَبُ لكل ذي مشرب قرآنا منه.

فسورة الإخلاص -مثلا- تشتمل على خزينة عظيمة لعلم التوحيد، تضم ستا وثلاثين سورة إخلاصٍ، تتكون من تراكيب جملها السّتِ ذات العلاقات المترابطة بعضها ببعض، كما وضّح ذلك في الكلمة الخامسة والعشرين.

Yükleniyor...