أن هذه المتشابهات من أكثر أقسام الاستعارات غموضاً، إذ إنها صورٌ مثالية لأخفى الحقائق الغامضة، بمعنى أن الإشكال إنما هو من دقةِ المعنى وعمقِه لا من إغلاق اللفظ وتعقيده.

فيا أيها المرتاب! انظر بإنصاف! ألا يكون مِن عين البلاغة -التي هي مطابقة مقتضى الحال- تقريبُ مثل هذه الحقائق العميقة البعيدة عن أفكار الناس ولاسيما العوام، تقريبُها إلى أفهام العوام بطريق سهل واضح.. أهذا يطابق المعنى بوضوح تام أم الوهم الذي في ذهنك؟ كن أنت الحاكم في هذا.

أما الجواب عن الريب الثاني وقد مرّ تفصيله في المقدمة الثانية،

فاعلم أن في شجرة العالم ميلَ الاستكمال، وتشعَّبَ منه في الإنسان ميلُ الترقي، وقد تشكلت العلوم -التي هي كدرجات سُلَّم الترقي- من ثمرات ميل الترقي بالتجارب الكثيرة وتلاحق الأفكار. هذه العلوم مترتبةٌ ومتعاونةٌ ومتسلسلةٌ، بحيث لا ينعقد المتأخر إلّا بعد تشكّل المتقدم، ولا يكون المتقدم متقدمةً للمؤخر إلّا بعد صيرورته كالعلوم المتعارَفة.

فبناء على هذا السر: فإن العلم الذي تَولَّد وظهر في هذا الزمان نتيجةَ تجارب كثيرة لو كان قبل عشرة عصور وحاول أحدٌ أن يفهّمه للناس لشوّش عليهم وأوقَعهم في السفسطة والمغلطة.

فمثلاً: لو قيل «انظروا إلى سكون الشمس وحركة الأرض واجتماعِ مليون حيوان في قطرة، لِتتصوروا عظمةَ الصانع!» ويرى جمهور العوام بسبب الحس الظاهري أو غلط الحس خلاف ما قيل لهم من البديهيات، إذن لانساقوا إلى التكذيب أو مغالطة نفوسهم، أو المكابرة تجاه شيء مخصوص، والحال أن تشويش الأذهان لاسيما في مقدار عشرة أعصر مناف لمنهاج الإرشاد.

تنبيه: إن أمثال هذه المسائل لا تُقاس بالنظريات التي تظهر في المستقبل، لأن الحس الظاهري لا يتعلق بالأشياء التي تعود للمستقبل، لذا فاحتمال الجهتين وارد. لأنه ضمن دائرة الممكنات، فيمكن الاعتقاد والاطمئنان بها، فحقها الصريح التصريح بها، ولكن «ما نحن فيه» لمّا خرج من درجة الإمكان والاحتمال إلى درجة البداهة أي إلى الجهل المركّب، فحقُّه في نظر البلاغة الذي لا يمكن إنكاره هو: الإبهام والإطلاق، لئلا تتشوش الأذهان. ولكن مع ذلك

Yükleniyor...