المسألة الثانية

إن حياة الكلام ونموَّه: بتجسّم المعاني وبنفخ الروح في الجمادات. وذلك بإلقاء الحوار فيما بينها بالسحر البياني الحاصل بقوة الخيال؛ المبنية على المغالطة الوهمية، المؤسسة على الدوران -أي ظن أحد الشيئين علّة للآخر في الوجود والعدم كما هو الاعتقاد العرفي-... فالسحر البياني إذا تجلى في الكلام بَعَثَ الحياة في الجمادات كالساحر، ويوقع بينها محاورة قد تنجرّ إلى المحبة أو المخاصمة، فيجسِّم المعاني ويحييها ويدرِج فيها الحرارةَ الغريزية.

فإذا شئت فادخل في البيت الصاخب:

يناجيني الإخلافُ من تحت مَطْلِهِ فتختصم الآمالُ واليأس في صدري (51)

أي: إن خلف الوعد يحاورني من تحت ستار المماطلة في الحق، ويقول: لا تنخدع. فتتخاصم الآمال واليأس ويهدّان منزل صدري المتزلزل.

فترى كيف مثّل الشاعر الساحر المحاربةَ والمخاصمة بتجسيمه الأمل واليأس وبعثه الحياة فيهما، وجعلهما في صراع مع مثير الفتن: إخلاف الوعد، حَتى جعل البيتَ كأنه مشهد سينمائي يتراءى أمام عقلك. نعم، إن هذا السحر البياني نوع من التنويم.

أو استمع إلى شكوى الأرض وعشقها إلى المطر في هذا البيت:


تشكّى الأرض غَيْبته إليه وترشُف ماءَه رشفَ الرضاب (52)

يضع أمام خيالك حالة قيس وليلى، فالأرض قيس ومعشوقها السحاب ليلى!

تنبيه: إن الذي جمّل هذا الشعر هو مشابهة ما فيه من الخيال إلى حدٍ ما بالحقيقة؛ إذ الأرض تُحدث صوتاً وأزيزاً إذا تأخر عنها المطر فتمص ماءه مصاً. والذي يشاهِد عنها هذه الحالةَ ينتقل خياله إلى تأخر المطر وشدةِ حاجة الأرض إليه، وبسر الدوران المعلوم وبتصرف الوهم يُفرغ الخيالُ نفسَه في صورةِ عشق وحوارٍ بينهما.

إشارة: لابد في كل خيال من نواة من حقيقة، مثل هذه النوية.

Yükleniyor...