السلف -إلى حد ما- عنها، حيث الأذهانُ كانت غير مستعدة، والأفكار مقيدة بالتقليد، والجهل مستول على العوام. بينما الفلسفة الحاضرة فخيرُها كثير -من جهة المادة- بالنسبة للقديمة، وكذبها وباطلها قليل. والأفكار حرة في الوقت الحاضر، والمعرفة مسيطرة على الجميع. وفي الحقيقة، لا بد أن يكون لكل زمان حكمُه.

المقدمة السادسة

إن كل ما يردُ في التفسير -مثلاً- لا يلزم أن يكون منه، فالعلم يمدّ بعضه بعضاً. فما ينبغي التحكّم (في الرأي)؛ إذ من المسلّمات: أن الماهر في مهنة الهندسة، ربما يكون عامياً وطفيلياً في مهنة أخرى كالطب، ودخيلاً فيها... ومن القواعد الأصولية: أنه لا يعدّ من الفقهاء مَن لم يكن فقيهاً، وإن كان مجتهداً في أصول الفقه، لأنه عامي بالنسبة إليهم... وكذلك من الحقائق التاريخية: أن الشخص الواحد لا يستطيع أن يتخصص في علوم كثيرة؛ إلّا من كان فذاً، فيستطيع أن يتخصص في أربعة أو خمسة من العلوم، ويكون صاحب ملَكة فيها.

فمن ادّعى الكلَّ فاتَه الكل؛ لأن لكل علم صورةً حقيقية، وبالتخصص تتمثل صورته الحقيقية؛ إذ المتخصص في علم إن لم يجعل سائر معلوماته متممة وممدةً له، تمثلت من معلوماته الهزيلة صورة عجيبة.

لطيفة افتراضية للتوضيح: لو افترض مجيء مصوّر إلى هذه الأرض من عالم آخر لم يكن قد شاهد صورة كاملة للإنسان ولا غير إنسان من الأحياء، وربما رأى عضواً من أعضاء كل منها... فإذا أراد هذا المصور تصوير إنسان، مما شاهد منه من يد ورجل وعين وأذن ونصف الوجه وأنف وعمامة وأمثالها، أو أراد تصوير حيوان مما صادف نظره من ذيل حصان وعنق جمل ورأس أسد، فالمشاهدون يتهمون المصور في عمله لأن عدم وجود تناسق وانسجام وامتزاج بين الأعضاء يَحول دون وجود كائن حي كهذا وسيقولون: إن شروط الحياة لا تسمح لمثل هذه الأعاجيب.

فهذه القاعدة نفسها تجري في العلوم.. والعلاج هو اتخاذ المرء أحد العلوم أساساً وأصلاً، وجَعْل سائر معلوماته حوضاً تخزن فيه.

Yükleniyor...