لاحظ هذه النقطة فإنك تحتاج إليها فيما بعد.

ثم إن أحد الأسباب المولّدة للفوضى والموقِعة في الاختلافات والموجدة للخرافات والمنتجة للمبالغات -بل أهم سبب لها- هو عدم القناعة والاطمئنان بما خُلق في العالم من حسن وعظمة وسمو. والذي يعني الاستخفاف بالنظام بذوق فاسد. حاشَ لله.

إن حسن الانتظام والعظمة والعلو المودَعة في حقائق العالم، التي كلٌّ منها أبهرُ معجزة من معجزات القدرة الإلهية في نظر العقل والحكمة، قد أبدعتها يدُ الحكمة الإلهية إبداعاً في غاية الروعة بحيث لو قورن بها ما يمرّ في خيال عشاق الخيال والمبالِغين من حسن وكمال خارقَين، لبقيت تلك الخيالات الخارقة اعتيادية جداً، ولبدت تلك السننُ الإلهية خارقةً حقاً، في غاية الحسن ومنتهى الكمال والعظمة. إلاّ أن الألفة -التي هي أخت الجهل المركب وأم النظر السطحي- هي التي عصبَت عيون المبالغين.

ولا يفتح تلك العيونَ المعصوبة إلّا أمرُ القرآن الكريم بالتدبّر والتأمل في الآفاق والأنفس المألوفتين.

نعم، إن نجوم القرآن الثاقبة هي التي تفتح الأبصار وترفع ظلام الجهل وظلمات النظرة العابرة. إذ تمزق الآياتُ البيّنات بيدها البيضاء حجابَ الألفة والنظرَ السطحي وأستار التشبث بالظاهر المحسوس، فتُوجّه العقولَ وترشدها إلى حقائق الآفاق والأنفس.

ثم إن مما يولد الرغبة في المبالغة، حاجةَ الإنسان الفطرية إلى إخراج ميلِه من طور القوة إلى طور الفعل. (20) إذ من ميوله: رؤيةُ العجائب المحيّرة وإراءتها، والرغبة في التجدد والإيجاد.

بناءً على هذا: لما عجَز الإنسانُ بنظره السطحي أن يتذوق ما في جِفان الكائنات وصحونِها من غذاء روحي مغطى بغطاء الألفة، سئِم من لَعق الجفان ولَحْس الغطاء، ولم يُفِده سوى عدم القناعة، والتلهّف إلى خوارق العادات والرغبة في الخيالات، مما ولّد لديه الرغبة في المبالغة للتجدد أو الترويج.. تلك المبالغة شبيهة بكرة الثلج المتدحرجة من أعلى قمة الجبل، كلما تدحرجت كبُرت... فالكلام المتدحرج أيضاً من ذروة الخيال إلى اللسان ومنه إلى لسان ولسان، تُشتَّت حقيقتُه الذاتية، إلّا أنه يَجمع حوله خيالات من كل لسان بميل المبالغة،


Yükleniyor...