ولما كان مصدرُ تبخّر حقائق الحكمة في صحراء الوقت الحاضر والباعث بالسحاب الممطر إلى جبال المستقبل، هو الأفكار والعقل والحق والحكمة والتي ولّدت حديثاً ميلَ التحري عن الحقيقة، وعشقَ الحق، وترجيحَ المنفعة العامة على الخاصة، وظهورَ رغبات إنسانية؛ لذا لا يثبت المدّعَى بغير البراهين القاطعة... فنحن أبناء الحال الحاضرة والمرشّحين للمستقبل لا يشبع أذهانَنا تصويرُ المدّعَى وتزيينه بل نطلب البرهان.

فلنذكر قليلاً من حسنات وسيئات الماضي والمستقبل اللذين هما في حكم سلطانين.

ففي ديار الماضي كان السائد في الأغلب هو: القوة، والهوى، والطبائع، والميول، والأحاسيس... لذا فإن إحدى سيئاته أنه كان هناك في كل أمر من أموره -ولو بصورة عامة- تحكّمٌ واستبداد وظهورُ محبةِ شخص على حساب خصومةِ آخرَ.. وغلبة خصومة مسلك الآخرين على محبة مسلكه.. ومداخلة الالتزام والتعصب.. والانحياز المانع عن كشف الحقيقة.

حاصل الكلام: لما كانت الميولُ متفاوتةً فإن تدخّل الشعور بالانحياز في كل شيء، ونشوء التبلبل بالاختلافات جَعَل الحقيقة تهرب وتختفي.

ثم إن من سيئات استبداد الأحاسيس، تأسسَ المسالك والمذاهب غالباً على التعصب وتضليل الآخرين، أو على السفسطة.. بينما هذه الثلاثة مذمومة في نظر الشرع، منافيةٌ للأخوَّة الإسلامية، مفرِّقة للانتساب الجنسي (الإنساني)، مخالِفةٌ للتعاون الفطري لدرجة أن أحد هؤلاء يضطر في النهاية إلى تبديل مذهبه ومسلكه دفعةً، مصدقاً إجماع الناس وتواترهم تاركاً التعصب والسفسطة. بينما إذا ما عَمل ابتداءً بالحق بدلاً من التعصب، وبالبرهان بدلاً من السفسطة، وبالتوفيق والتطبيق بدلاً من تضليل الآخرين، وطبّق الشورى، فلا يمكن أن يبدّل مذهبه ومسلكه الحق ولو بجزء منهما حتى لو اتفقت الدنيا عليه.

ولما كان المهيمنُ هو الحق والبرهان والعقل والشورى في خير القرون وعصور السلف الصالح، لم يكُ للشكوك والشبهات موضع. كذلك نرى أنه بفضل انتشار العلوم في الوقت الحاضر وهيمنتها بصورة عامة -وفي المستقبل هيمنةً تامة إن شاء الله- سيكون المهيمنُ هو الحق بدلاً من القوة، والبرهانُ بدلاً من التعصب والسفسطة، والحميةُ بدلاً من الأحاسيس المادية، والعقلُ بدلاً من الطبع، والهدى بدلاً من الهوى، كما كان الحال في


Yükleniyor...