نعم، إن أوروبا على الرغم من كونها عُشر الخمس للكرة الأرضية، فإنها جذبت ربع البشرية نحوها بلطافة مناخها الفطري.

وإنه ثابت حكمةً: أن اجتماع الأفراد الكثيرين يولّد الحاجات، فلا يستوعب إنتاجُ الأرض تلك الحاجاتِ التي تتزايد بأسباب كثيرة -كالتقليد وغيره- ومن هنا تصبح الحاجةُ أمَّ الاختراع والصناعة، وحبُّ الاستطلاع معلّمَ العلم، والضيقُ الروحي مولدَ السفاهة.

نعم، إن التوجه نحو الصناعة والميل إلى المعرفة ينشأ من الكثرة؛ فبسبب ضيق المكان في أوروبا، وكثرة بحارها وأنهارها التي هي وسائط نقل طبيعية فيها، فإن التعارف ينتج التجارة، والتعاونَ الاشتراك في الأعمال، مثلما يولد التّماس تَلَاحُقَ الأفكار والمنافسةَ والتسابق.

ولكثرة ما فيها من الحديد -الذي هو منبع جميع صناعات أوروبا- أعطى لمدنيتهم السلاحَ القوي حتى غصبت أنقاضَ مدنيات الدنيا كلها وأغارت عليها، إلى حد أثقلت كفتها وأخلّت بميزان الكرة الأرضية.

ثم إن البرودة المعتدلة التي من شأنها أن تأخذ كل شيء ببطء وتتركه ببطء، قد أعطت لسعيهم الثبات والمتانة، فأدامت مدنيتهم.

ثم إن تَشكُّل دولهم المستندة إلى العلم، وتصادُم قواهم المتكافئة، وإزعاجاتِ استبداداتهم الغدارة، ومضايقاتِ تعصبهم المقيت الظالم -كتعصب محاكم التفتيش- والذي آل إلى خلاف المقصود، والتسابقَ الجاري بين عناصرها المتوازنة.. كل ذلك نمّى استعداداتِ الأوروبيين، وفجّر قابلياتِهم، فظهرت لديهم المزايا، والفكر القومي.

السبب الثاني:

هو نقطة الاستناد. نعم، إن أيّ نصراني كان إذا ما رفع رأسه ومدّ يده إلى أي مقصد من المقاصد المتسلسلة المتداخلة، إذا به يجد وراءه نقطة استناد قوية تعزز قوته المعنوية وتبعث فيها الحياة، حتى يجد في نفسه من القوة ما يمكّنه أن يقتحم كل صعب وعظيم من الأعمال.

فتلك النقطة، نقطة الاستناد، هي مدنيةُ أوروبا التي هي معسكر (كتلة مسلحة) وكنيستُها العظيمة، وهي مستعدة في كل آن أن تنفخ الحياة في عروق رفقاء دينها الذين يمدون


Yükleniyor...