-وهي كلمة الحكمة- (29) معاني جمّة بمقدار أزهار الشجر. وأن لكل ثمرة -وهي معجزة الصنعة وقصيدة الرحمة- من الحِكَم ما في الشجرة نفسها. أما من جهة كونها أرزاقا لنا فهي حكمة واحدة من بين ألوف الحكم، حيث إنها تنهي مهامها، وتوفي مغزاها فتموت وتُدفن في معداتنا.

فما دامت هذه الأشياء الفانية تؤتي ثمارَها في غير هذا المكان، وتودع هناك صورا دائمة، وتعبّر عن معانٍ خالدة، وتؤتي أذكارَها وتسابيحها الخالدة السرمدية هناك. فالإنسان إذن يصبح إنسانا حقا مادام يتأمل وينظر إلى تلك الوجوه المتوجهة نحو الخلود. وعنده يجد سبيلا من الفاني إلى الباقي.

إذن هناك قصد آخر ضمن هذه الموجودات المحتشدة والمتفرقة التي تسيل في خضم الحياة والموت، حيث إن أحوالها تشبه -ولا مؤاخذة في الأمثال- أحوالا وأوضاعا تُرتّب للتمثيل، فتُنفَق نفقات باهظة لتهيئة اجتماعات وافتراقات قصيرة، لأجل التقاط الصور وتركيبها لعرضها على الشاشة عرضا دائما.

وهكذا فإن إحدى غايات قضاء الحياة الشخصية والاجتماعية في فترة قصيرة في هذه الدنيا هي أخذ الصور وتركيبها، وحفظ نتائج الأعمال، ليُحاسَب أمام الجمع الأكبر، وليُعرض أمام العرض الأعظم، وليُهيأ استعدادُه ومواهبه للسعادة العظمى. فالحديث الشريف: «الدنيا مزرعة الآخرة» (30) يعبّر عن هذه الحقيقة.

وحيث إن الدنيا موجودة فعلا، وفيها الآثار الظاهرة للحكمة والعناية والرحمة والعدالة، فالآخرة موجودة حتما، وثابتة بقطعية ثبوت هذه الدنيا. ولما كان كلّ شيء في الدنيا يتطلع من جهة إلى ذلك العالم، فالسير إذن والرحلة إلى هناك، لذا فإن إنكار الآخرة هو إنكار للدنيا وما فيها. وكما أن الأجل والقبر ينتظران الإنسان، فإن الجنة والنار كذلك تنتظرانه وتترصدانه.


Yükleniyor...