صُنعه سبحانه في هذا المعرض الهائل، ومن ثم يغيبون، والمعرضُ نفسه يتبدل ويتغير كل دقيقة!. فمَن يرحل فلا عودةَ له، والقابلُ راحل. فهذا الوضع يبين بوضوح وبشكل قاطع أن وراء هذا المضيف الفاني، وخلفَ هذا الميدان المتغير، وبَعد هذا المعرض المتبدل، قصورا دائمة تليق بالسلطنة السرمدية، ومساكنَ أبدية ذات جنان، وخزائنَ ملآى بالأصول الخالصة الراقية للنماذج التي نراها في الدنيا؛ لذا فالدأب والسعي هنا إنما هو للتطلع إلى ما هناك.. والاستخدام هنا لقبض الأجرة هناك. فلكلٍّ حسب استعداده واجتهاده سعادة وافرة إن لم يفقدها.

نعم، إنه محال أن تظل مثل هذه السلطنة السرمدية مقصورةً على هؤلاء الفانين الأذلاء.. فانظر إلى هذه الحقيقة من خلال منظار هذا المثال:

هب أنك تسير في طريق، وتشاهد أن عليها «فندقا فخما» بناه ملك عظيم لضيوفه، وهو ينفق مبالغَ طائلة لتزيينه وتجميله كي يُدخل البهجة في قلوب ضيوفه، ويعتبروا بما يرون. بيد أن أولئك الضيوف لا يتفرجون إلّا على أقل القليل من تلك التزيينات، ولا يذوقون إلّا أقل القليل من تلك النعم، حيث لا يلبثون إلّا قليلا ومن ثم يغادرون الفندق دون أن يرتووا ويشبعوا. سوى ما يلتقطون من صور أشياء في الفندق بما يملكون من آلة تصـوير وكذلك يفعل عمال صاحب الفندق وخدامه حيث يلتقطون حركات هؤلاء النـزلاء وسكناتهم بكل دقة وأمانة ويسجلونها. فها أنت ذا ترى أن الملك يهدّم يوميا أغلب تلك التزيينات النفيسة، مجددا إياها بأخرى جديدة للضيوف الجدد. أفَبَعد هذا يبقى لديك شكّ في مَن بنى هذا الفندق على قارعة هذه الطريق يملك قصورا دائمة عالية، وله خزائن زاخرة ثمينة لا تنفد، وهو ذو سخاء دائم لا ينقطع. وأن ما يبديه من الكرم في هذا الفندق هو لإثارة شهية ضيوفه إلى ما عنده من أشياء، ولتنبيه رغباتهم وتحريكها لما أعدّ لهم من هدايا؟.

فإن تأملت من خلال هذا المثال في أحوال فندق الدنيا هذه، وأنعمتَ النظر فيها بوعي تام فستفهم الأسس التسعة الآتية:

الأساس الأول: أنك ستفهم أن هذه الدنيا -الشبيهة بذلك الفندق- ليست لذاتها. فمحال أن تتخذ لنفسها بنفسها هذه الصورة والهيئة. وإنما هي دار ضيافة تُملأ وتُفرغ، ومَنـزلُ حِلّ وترحال، أنشئت بحكمةٍ لقافلة الموجودات والمخلوقات.


Yükleniyor...