مع العبودية) بل كل منها يتضمن ماهية القرآن كلها، والمقاصد الأربعة معا، أي كل منها: كتابُ ذكر وإيمان وفكر، كما أنه كتاب شريعة وحكمة وهداية. فكل سورة من تلك السُوَر تتضمن كُتبا عدة، وترشد إلى دروس مختلفة متنوعة. فتجد أن كل مقام -بل حتى الصحيفة الواحدة- يفتح أمامَ الإنسان أبوابا للإيمان يحقق بها إقرار مقاصد أخرى، حيث إن القرآن يذكر ما هو مسطور في كتاب الكون الكبير ويبينه بوضوح، فيرسّخ في أعماق المؤمن إحاطة ربوبيته سبحانه بكل شيء، ويريه تجلياتها المهيبة في الآفاق والأنفس. لذا فإن ما يبدو من مناسبة ضعيفة، يبنى عليها مقاصد كلية فتتلاحق مناسبات وثيقة وعلاقات قوية بتلك المناسبة الضعيفة ظاهرا، فيكون الأسلوب مطابقا تماما لمقتضى ذلك المقام، فتتعالى مرتبته البلاغية.

سؤال آخر: ما حكمة سَوق القرآن ألوف الدلائل لإثبات أمور الآخرة وتلقين التوحيد وإثابة البشر؟ وما السر في لفته الأنظار إلى تلك الأمور صراحةً وضمنا وإشارةً في كل سورة بل في كل صحيفة من المصحف وفي كل مقام؟

الجواب: لأن القرآن الكريم ينبّه الإنسان إلى أعظم انقلاب يحدث ضمن المخلوقات ودائرة الممكنات في تاريخ العالم.. وهو الآخرة. ويرشده إلى أعظم مسألة تخصه وهو الحامل للأمانة الكبرى وخلافة الأرض.. تلك هي مسألة التوحيد الذي تدور عليه سعادتُه وشقاوتُه الأبديتان. وفي الوقت نفسه يزيل القرآن سيلَ الشبهات الواردة دون انقطاع، ويحطم أشدّ أنواع الجحود والإنكار المقيت.

لذا لو قام القرآنُ بتوجيه الأنظار إلى الإيمان بتلك الانقلابــــات المدهشة وحملِ الآخرين على تصديق تلك المسألة العظيمة الضرورية للبشر.. نعم، لو قام به آلافَ المرات وكرر تلك المسائل ملايين المرات، لا يعدّ ذلك منــه إســـرافا في البلاغة قط، كما أنه لا يولد ســـأما ولا مللا البـتـة، بــــل لا تنقطع الحـــاجـــة إلى تكرار تلاوتها في القرآن الكريم، حيث ليس هناك أهم ولا أعظم مسألة في الوجود من التوحيد والآخرة.

فمثلا: إن حقيقة الآية الكريمة: ﹛﴿ اِنَّ الَّذ۪ينَ اٰمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْر۪ي مِنْ تَحْتِهَا الْاَنْهَارُۜ ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَب۪يرُ ﴾|﹜ (البروج:١١) هي بشرى السعادة الخالدة تزفّها هذه الآية الكريمة إلى الإنسان المسكين الذي يلاقي حقيقةَ الموت كل حين، فتنقذه هذه البشرى من


Yükleniyor...