فهذه الآية تشير إلى النعمة الإلهية العظمى في تليين الحديد كالعجين وتحويله أسلاكا رفيعة، وإسالة النحاس، واللذان هما محور معظم الصناعات العامة، حيث وهبها الباري الجليل على صورة معجزة عظمى لرسول عظيم وخليفةٍ للأرض عظيم. فما دام سبحانه قد كرّم مَن هو رسول وخليفة معا، فوهب للسانه الحكمة وفَصل الخطاب، وسلّم إلى يده الصنعة البارعة، وهو يحض البشرية على الإقتداء بما وهب للسانه حضا صريحا، فلابد أنّ هناك إشارةً ترغّب وتحضّ على ما في يده من صنعة ومهارة.

فسبحانه يقول بالمعنى الإشاري لهذه الآية الكريمة: يا بني آدم! لقد آتيتُ عبدا من عبادي أطاع أوامري وخضع لما كلّفته به، آتيت لسانَه فصل الخطاب، وملأتُ قلبَه حكمةً ليفصل كل شيء على بينة ووضوح. ووضعت في يده من الحقيقة الرائعة ما يكون الحديدُ كالشمع فيها، فيغيّر شكله كيفما يشاء، ويستمد منه قوة عظيمة لإرساء أركان خلافته وإدامة دولته وحُكمه. فما دام هذا الأمر ممكنا وواقعا فعلا، وذا أهمية بالغة في حياتكم الاجتماعية. فأنتم يا بني آدم إن أطعتم أوامري التكوينية تُوهَب لكم أيضا تلك الحكمة والصنعة، فيمكنكم بمرور الزمن أن تقتربوا منهما وتبلغوهما.

وهكذا فإنّ بلوغَ البشرية أقصى أمانيّها في الصناعة، وكسبَها القدرة الفائقة في مجال القوة المادية، إنما هو بتليين الحديد وبإذابة النحاس (القِطر). فهذه الآيات الكريمة تستقطب أنظار البشرية عامة إلى هذه الحقيقة، وتلفت نظر السالفين وكسالى الحاضرين إليها، فتنبّه أولئك الذين لا يقدرونها حق قَدرها.

ومثلا: ﹛﴿ قَالَ الَّذ۪ي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ اَنَا۬ اٰت۪يكَ بِه۪ قَبْلَ اَنْ يَرْتَدَّ اِلَيْكَ طَرْفُكَۜ فَلَمَّا رَاٰهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ.. ﴾|﹜ (النمل:٤٠).

فهذه الآية تشير إلى أنّ إحضار الأشياء من مسافات بعيدة -عينا أو صورة- ممكن، وذلك بدلالتها على تلك الحادثة الخارقة التي وقعت في ديوان سيدنا سليمان عليه السلام، عندما قال أحدُ وزرائه الذي أوتي علما غزيرا في «علم التحضير»: أنا آتيك بعرش بلقيس. ولقد آتى الله سبحانه سيدنا سليمان عليه السلام المُلكَ والنبوة معا، وأكرمه بمعجزة يتمكن بها من الاطلاع المباشر بنفسه وبلا تكلف ولا صعوبة على أحوال رعاياه، ومشاهدة أوضاعهم،


Yükleniyor...