المزعج وفقره المعجِز وعقله الناقل لأحزان الماضي ومخاوف المستقبل إلى رأس الإنسان- أدنى وأخسرَ من جميع الحيوانات. فهذه هي ماهية الكائنات عند مَن لم يدخل في دائرة نوره.

فانظر الآن بنوره، وبمرصاد دينه، وفي دائرة شريعته، إلى الكائنات كيف تراها؟ انظر! قد تبدل شكلُ العالم، فتحول بيتُ المأتم العمومي مسجدَ الذكر والفكر، ومجلسَ الجذبة والشكر.. وتحوَّل الأعداء الأجانب من الموجودات أحبابا وإخوانا.. وتحوَّل كلٌّ مِن جامداتها الميتة الصامتة حيا مؤنسا مأمورا مسخرا، ناطقا بلسان حاله آياتِ خالقه.. وتحوَّل ذوو الحياة منها -الأيتامُ الباكون المشتكون- ذاكرين في تسبيحاتهم، شاكرين لترخيصاتهم عن وظائفهم.. وتحوَّلت حركات الكائنات وتنوعاتها وتغيراتها من العبثية والمُهمَليّة وملعبةِ التصادف إلى صيرورتها مكتوباتٍ ربانية وصحائفَ آيات تكوينية ومرايا أسماءٍ إلهية، حتى ترقّى العالمُ وصار كتابَ الحكمة الصمدانية.

وانظر إلى الإنسان كيف ترقّى من حضيض الحيوانية العاجزة الفقيرة الذليلة إلى أوج الخلافة، بقوة ضعفه، وقدرة عجزه، وسَوق فقره، وشوق فاقته، وشوكة عبوديته، وشعلة قلبه، وحشمة إيمان عقله. ثم انظر كيف صارت أسبابُ سقوطه من العجز والفقر والعقل أسبابَ صعوده بسبب تنورها بنور هذا الشخص النوراني!

ثم انظر إلى الماضي، ذلك المزارِ (2)الأكبر في ظلماته، كيف استضاء بشموس الأنبياء وبنجوم الأولياء! وإلى الاستقبال تلك الليلةِ الليلاء في ظلماته، كيف تنوّر بضياء القرآن وتكشّف عن بساتين الجنان!

فعلى هذا؛ لو لم يوجَد هذا الشخص لسقطت الكائناتُ والإنسانُ وكلُّ شيء إلى درجة العدم، لا قيمة ولا أهمية لها، فيلزم لمثل هذه الكائنات البديعة الجميلة مِن مِثل هذا الشخص الخارق الفائق المعرِّف المحقق، فإذا لم يكن هذا فلا تكنِ الكائناتُ، إذ لا معنى لها بالنسبة إلينا. فما أصدقَ ما قالَ مَنْ ﹛﴿ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ ﴾|﹜ (الانعام:٧٣) «لولاكَ لَولاكَ لَما خَلقتُ الأفلاكَ» . (3)

Yükleniyor...