ذوقها. ولعلّ في إسراء الرسول ﷺ وفي معراجه إلى الملكوت الأعلى بكيانه البشري كله -لا بجزء من هذا الكيان- إيماءً إلى أن المعارف الدينية والتعبدية لا يمكن للمرء أن يستكمل جميع ما يتقطر منها من حلاوة ولذة إلّا باستخدام جميع أحاسيس كيانه الروحية منها والمادية. فكما أن آلام هذا الكيان ليست واحدة، فألم العين ليس كألم الأذن، وألم الأذن غير ألم الضرس، وأوجاع النفس غير أوجاع البدن، فكذلك فإن مباهج هذا الكيان وأفراحه وأذواقه ليست واحدة على التحقيق..

فالصلاة مثلا -وهي معراج المسلم خمس أوقات في اليوم- تصبح -في الأداء الأمثل- موضع مذاقات الذات البشرية بأسرها؛ فكرا وروحا وبدنا، ومن هنا جاء قوله ﷺ: «يا بلال أقم الصلاة أرِحْنَا بها» . (6)وقس على هذا جميع العبادات والمعارف الإيمانية الأخرى التي استعرضها النورسي في كتابه هذا، مبينا ضرورتها للإنسان كضرورة الماء والهواء، بل أعظم منهما ضرورة، فهو (أي النورسي) لشدة احترامه للإنسان فإنه يحاور -في مثنويه- الكيان الإنساني بأسره وبجميع لطائفه أسوةً بمنهج القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وهو يقرر بأن أية معرفة إيمانية لا يكون من همّها إشباعُ لطائف الإنسان جميعا، تبقى ناقصة ومبتورة أمام المعرفة الجامعة الكاملة المستقاة من القرآن الكريم مباشرةً من قِبل مَنْ هم ورثة الأنبياء حقا وصدقا.

وحتى «القدر» الذي يقدّر مقادير الخلق، ويعيّن وظائف الموجودات، ويرسم لكل كائن في هذا العالم المدى الذي يمضي إليه، والبعد الذي يصل عنده ويؤشر له نقطة البداية التي ينطلق منها، ونقطة النهاية التي يقف عندها، ثم يربط الموجودات بعضها ببعض، ويسنّ لها سنن التعاون والتساند فيما بينها، فما يبدو -للوهلة الأولى- وكأنه صراع من أجل البقاء بين بعض أنواعها، هو في النظرة العميقة الشاملة وفي المحصلة النهائية، وما يفضي إليه هذا الصراع من غايات ومقاصد، يصب في تيار التعاون والتساند ويثري الحياة، ويسهم في دفعها نحو الهدف الذي يريده منها خالق الحياة..


Yükleniyor...