والآخرة بأحداثها وأهوالها، ونشرها وحشرها وجنتها ونارها، ليست -عند النورسي- قضية هامشية تحتل هامش ذهنه، وفضول وقته، وبقايا همّه -كما هي اليوم لدى الغالبية العظمى من الناس- وإنما هي شهود دائم، وحضور قائم، ووجود شاخص، لا يبرح فكره، ولا يغادر وجدانه، يراها بنظر بصيرته كما يرى الأشياء بنظر عينه، وتتحسسه روحه كما يتحسس كل مشهود ومعلوم، وينفعل كيانه بها انفعالَ منْ يَبْدَهُه الشيء العظيم والخطير، فيستهوِله ويتعظمه، ويخافه ويرجوه، ويرغب به، ويرهب منه.. فما دام الذي بين الإنسان وبين أن تقوم قيامته، وتحل آخرته، هو أن يأتي زمن موته، وهو زمن مجهول قدرُهُ، محجوب سرّ قدومه، مكتوم وقت نزوله، ولكنه آت لا ريب فيه، لذا فالآخرة -بهذا الاعتبار- هي غائبة حاضرة، بعيدة قريبة، مجهولة معلومة، مستورة مكشوفة.. هكذا يتحدث عنها النورسي -مستعينا بما يرمز إليها من شؤون الدنيا- ويصف قيامتها وحشرها ونارها وجنتها وصْفَ مَنْ يراها ويسمعها، ويغشاهُ وقتها وزمانها. وما لم يكن الشلل الروحي قد استفحل دبيبه في كيان المرء، وما لم يكن قد سرى خدَره المتيبّسَ إلى أمداء عميقة وسحيقة فيه، بحيث لم يَعُد يجدي فيه أيّ علاج.. فأغلب الظن أن «المثنوي» قادر بإذن الله -بما تفيض به كلماته من بداهة الصدق المقنع- على تحرير هذا المرء من أصفاد شلله، وقادر على إجراء ذلك التمسيد المنشط للذرات الباردة المتيبسة في وجدان هذا المرء، وبعث الدفء والحركة والإحساس بالعافية في كيانه كله، فلا يلبث أن يندفع -في فورة عافيته- مخترقا شغاف الأوهام بسنا النور الذي أشرقت شمسُه في فؤاده، ومبددا دياجي الأباطيل ببوارق الحق الذي سطع ضوءُه في آفاق عقله.

وتجربة النورسي في مثنويه تعلمنا بأن «الحقيقة الدينية» -كأية حقيقة وجودية أخرى بل أكثرها علوا وشرفا- لا يمكن أن تفصح عن نفسها، وتكشف عن سرها إلّا إذا بَحث عنها وجهد في استكشافها الكيانُ البشري برمته، أي بنزاهة الفكر، وإخلاص الضمير، وطهارة الروح والبدن، لأن كل هذه الجوانب -التي منها يتكون الكيان البشري ويستقيم أمره- لها مجساتها الخاصة التي بها تجس جانبا من جوانب الحقيقة وتتلمسها متلذذةً بهذا التلمس والتحسس. وبمجموع هذه المجسات المتساندة والمتعاونة في الكيان البشري، وبالجوارح جميعا -المادية والمعنوية- يمكن الإحاطة بالحقيقة الدينية والتقاطُها وجعلها تسفر عن نفسها كأنصع وأجمل ما تكون، لتنال كلُّ جارحة منها حظها، وتترشف منها ما يلائم مزاجها، ويُرضي حاسة


Yükleniyor...