أقول: إن القدر، بهذا المفهوم الذي يطرحه النورسي في جملة من خواطره في «المثنوي» -وإن كان فوقيا وغيبيا- إلّا أنه لا ينزل بالإنسان هكذا فجأة وعلى غير انتظار، ولا يلطم أحدا إلّا تأديبا له وتعليما، أو تنبيها وتذكيرا ولا يُرَبّتُ على ظهر أحد غير جدير برحمته، وبلمسات لطفه وودّه، وهو ليس من همه أبدا أن يقف في طريق الإنسان، ويدخل معه في صراع فلا يفلته حتى يصرعه.. فلو استعرض كلٌّ منا شريط حياته لشعَر وكأنّ ما وقع له من أحداث أو أقدار -في سني عمره كله- لم تقع اعتباطا، ولم تحدث لغير ما مغزى ويتيقن بأنّ كل شيء حدث له وكأنه كان ينبغي أن يحدث على الشكل الذي حدث به وبالطريقة عينها التي حدث بها، وأنه النتيجة المتوقعة لسلسلة من المقدمات التي سبقته، فلا تقبل نتيجةً سواها. فالأحداث أو الأقدار -تأنيسا لبني البشر- لا تأتي مغايِرة لمن تقع لهم، بل تأتي شبيهة بهم وبأعمالهم، وبما ينطوي عليه كيانهم البشري من أصول البطولة أو الخسة، ومن جذور النقاء أو الدنس. وصدق الله العظيم حيث يقول: ﹛﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلٰى شَاكِلَتِه۪ ﴾|﹜ (الإسراء:٨٤) فعلى شاكلة هذه الأعمال، وبسببها وعلى قدْرِها يقع القَدَر، وينفذ القضاء.

وبعد:

ويجدر بي أن أشير إلى أن الجديد في هذا الكتاب هو قدرة النورسي الفذة على صياغة القضايا الإيمانية والبرهنةِ على صدقها وأحقيتها بأسلوب هو مزيج من عقل المفكر، وقلب الشاعر.. ولكي أعطي صورة قربية عن هذا الأسلوب للقارئ الكريم أقول:

إنَّ النورسي نفس شاعرة، وروح لهيف، وقلب مشتاق، ووجدان رقيق مرهف، وبصيرة نفاذة مذواق، وبصر لمّاح رصّاد لا تفوته بارقة من بوارق الجمال الكوني، ولا تفلت منه سانحة من سوانحه. وطائر عجيب يلقط لآلئ الحسن من فوق جيد الوجود. وظامئ عطش يترشف زلال الجمال من رضاب ثغور الأكوان.. ومع كونه يملك كل صفات «الشاعر العظيم» إلّا أنه لم يقل شعرا، أعني أنه لم ينظم شعرا كما ينظم الشعراء، ولكن ما قاله في «المثنوي» رغم أنه يحمل ميزات «النثر» ومقوماته شكلا وقالبا، إلّا أنه شاعريّ الروح والنفس وجداني الانسياب، رشيق في صوره وأخيلته، مع عمق أفكاره ودقيق معانيه!

Yükleniyor...