ويقوي فيه بصيرة الكشف الذكي عن «علوم التوحيد» العظيمة في مظانها الأصلية من نفس الكون والإنسان.

فالتوحيد الذي يدعونا إليه «المثنوي» ليس تقريريا، ولا تلقينيا، ولا تقليديا، ولا ترديديا، بل استكشافيا.. فيه ما في الاستكشاف من متعة ومغامرة ومعاناة، فهو يأخذنا -عبر خواطره- في جولة استكشافية في أغوار النفس الإنسانية، ويدور بنا في أنسجة الروح والفكر والضمير، ثم يزيح التراب عن ذاكرة الكون المَؤُودة تحت ركام علوم العصر، ويستنطقها لتحدثنا عن بصمات «التوحيد»، وتدلنا على آيات الإله الواحد الذي لا يقبل الشريك.. ولا يتركنا إلّا ونحن قد اكتشفنا «التوحيد» والتقيناه في أشد الأشياء الكونية والنفسية بداهةً، فينبثق في صميم أفئدتنا انبثاقا، وينغرس بشكل عفوي في أعماق أرواحنا وضمائرنا، فيهز هذا التوحيد الاستكشافي أعماق النفس، ويفعم الذهن بطاقات الذكاء، ويشدُّ في الوجدان أجهزة التلقي عن الكون والحياة، فيستمر المسلم كشافا رائدا لأعمق الحقائق -في الكون والإنسان- في ديمومة لا تتوقف حتى تتوقف حياته.. فيزيد فهما، ويتسع وعيا، ويخصب وجودا وحياةً.

والإيمان بالله واحدا أحدا فردا صمدا هو أحد المحاور الثلاثة -بعد النفس والطبيعة- الذي يدور حوله النورسي في أفكاره وخواطره المسجلة على صفحات «المثنوي». وهو يرى أن العقل المسلم ينبغي أن يكون قرآنيَّ التصورِ لمفاهيم التوحيد، ولصفات الكمال والجلال والجمال التي يتصف بها الله سبحانه وتعالى. وأن هذا «العقل» الذي تُشكِّل المفاهيمُ القرآنية تصوراته عن الألوهية والربوبية.. لا يمكن أن يرقى إلى قمته عقلٌ كائنا ما كان ما دام محجوبا عن القرآن.

والنورسي وإن لم يكن قد استعرض تصورات العقليين للألوهية والربوبية، وتصورات غيرهم من أصحاب الأديان والمذاهب والنحَل، إلّا أننا نحسُّ من خلال كلامه عن أسماء الله تعالى وصفاته، وكأنه يردّ -ضمنا- على هذه التصورات المنحرفة، ويفندها الواحدة تلو الأخرى.

ففي كلامه كما سيلمس القارئ بنفسه ردّ ضمني على مَنْ يزعم -من العقليين- بأن الله تعالى خلق العالم وفرغ من خلقه، ولا شأن له به بعد ذلك.

وردٌّ على مَنْ يدّعي عدم علم الله بالجزئيات، تعالى عن هذا علوا كبيرا.

Yükleniyor...