الكتاب -لأنه ليس بعد الصدق مع النفس من صدق- وبسرّ قوة الروح المسكوب في كلماته -لأنه ليس من روح أقوى من روح عجنته المعاناة وأنضجته نار التجربة- يمكن لأي إنسان الإفادة من تجربة هذا الكتاب في ترويض نفسه، والتحرر من رهقها، وكذلك تنقية مداركه العقلية من مفاهيمها الخاطئة عن ربوبية «الطبيعة» وأُلوهية ماديتها. فبانهدام هذين الوثنين: النفس والطبيعة، وتحررِ الإنسان من طغيان سطوتهما عليه، ينفسح له المجال واسعا لميلاد ذاته الحرة من جديد، وانتفاضها من بين أنقاض عالمه المتهدم مفعمةً بالعافية، طافحةً بالحيوية، فلا تلبث حتى تسرع في استرداد وعيها الأعمّ الأشمل، وإدراكها الأصح الأصوب، فترى -بصفاء نظرها وسريرتها- أنّ كل موجود -بحد ذاته- حرف ضائع لا معنى له ما لم يعطه اسم «الله» الأعظم معناه بالانتساب إليه، ويسبغ عليه مغزاه على قدر ارتباطه به وفهمه عنه.

فالكائنات والموجودات -بما فيها الإنسان- حروف خاوية حائرة تجوب كتاب العالم، فلا تقرُّ أو تجد لها مكانا فوق سطور هذا الكتاب الكبير ما لم تستمد معانيها من أسماء الله الحسنى، وما لم يمسها مدد من أمدادها، وينسكب فيها مِدَادٌ من مِدَادِ بحار القدرة.. فلا شيء موجود على الحقيقة ما لم يعطه الله شيئيته، ويمنحه كيانه، ويقدّر وجوده. فإذا وصل الإنسان إلى هذه النقطة من الإدراك، ولاسيما بعد عظيم المعاناة، فقد وصل إلى «التوحيد» الخالص، وتشرّب جوهر الإيمان والإسلام، وعرف جدوى الوجود ومعناه.

وهذا هو ما يرمي «المثنوي» ويهدف إلى تحقيقه في نفس صاحبه أولا، وفي نفس كل قارئ من بعده.

∗ ∗ ∗


والتوحيد الخالص من شوائب الشك، والذي يشكل لبَّ الإيمان، وجوهر عقيدة الإسلام، هو في «المثنوي» ليس أمرا تقريريا، ولا معنىً تلقينيا، ولا عقيدة تقليدية، ولا كلاما محفوظا مرددا يردده المسلم بلسان جاف، وقلب بارد، ووعي ذاهل، كما هو مشاهَد اليوم لدى الكثير من المسلمين.. فلا غرو إذا ما عجزتْ «كلمةُ التوحيد» اليوم -وقد خالطها هذا القصور المعيب- أن تخرق أبواب الروح، وتلِج إلى أعماق الفؤاد، لتُطلق قوى المسلم، وتفجّر طاقات كيانه الروحي الذي أصابه الضمور وغدا عاجزا عن ممارسة أي نشاط يمكن أن يزيد في نموه،


Yükleniyor...