العصور- أن يفيد بعضهم من تجارب البعض الآخر، ولولا هذه السنّة الحسنة التي درج عليها الناس لما وصلت البشرية إلى هذا الصرح الهائل العظيم من المعارف والعلوم والأفكار.

ونكاد نلمس بين سطور «المثنوي» غبار الصراع الدؤوب الذي خاضه النورسي بشجاعته ضد تمردات نفسه وجنوحاتها قبل أن تسلس له القياد، وتسلم له الزمام، حتى إننا لنتعاطف معه، ونأسى من أجله ونحن ننظر بعين الخيال إلى ما عاناه هذا الرجل من عذاب قبل أن يحقق انتصاره النهائي على الجانب المُستعصي من نفسه.

وما من أحد من المؤمنين إلّا وله مع نفسه العصية مواقف أو بعض مواقف -كالتي كانت للنورسي مع نفسه- مع اختلاف درجات التوتر والقلق والصراع ضعفا وقوةً، وقلة وكثرةً، في الأشخاص، تبعا لدرجات إيمانهم ويقينهم؛ لذا فما من أحد إلّا وله في تجربة النورسي ما يفيده بدرجة أو بأخرى.. وإذا ما فاتنا النزر اليسير من علاجات النورسي لنفسه، بسبب بعض الغموض في بعض وصفاته، إلّا أننا سنفيد -بلا ريب- من الشيء الكثير منها، وكما يقول:

«لا تقل: إذا لم أدرِ الكل لا أريد الكل.. فإذا كنت في بستان أَتَتْرك الثمرات إن لم تأكل كلها». (4)

فَرُبّ زهرة تقطفها من حديقة «المثنوي» تغنيك بشذاها وجمالها عن عشرات الأزهار، ورُبّ فاكهة تنالها يدك تعطيك مذاق مائة فاكهة وفاكهة.

فالمثنوي.. كتاب فريد في مصداقيته، قد سجل فيه النورسي بأمانة وعفوية وصدقٍ سيرةَ نفسه وما كان يعتَورها من قلق واطمئنان، وينتابها من صحة وسقام، ويتناوشها من شك ويقين، من دون زيادة أو نقصان، حتى إنه لَيترك نفسه تنساب -على سجيتها- مع انسياب قلمه، فلا يجري على كلامه في بداهته الأولى أيّ تبديل أو تعديل، حفاظا على براءة عفويته، وخوفا من أن يدخل على كلامه ما يخدش صدقه، ويمسُّ بكارة معانيه. (5)

وما يتكرر في أول كل خاطرة من خواطر «المثنوي» من «اعلم» فالمقصود: «اعلم يا سعيد». أو «اعلمي»، فالمقصود: «اعلمي يا نفسي»، فبسر قوة الصدق الذي يشيع في ثنايا


Yükleniyor...