يراه، والفكر الذي يخلص إليه.. فهو في كل ما كتب ولاسيما في «المثنوي» إنما كان يكتب لنفسه بهذا القصد ولهذا الغرض، وكأنّ نفسه -لشدة جموحها ونفورها من الفكر التقليدي- قد آثرت الانفصال عنه، والانسلاخ منه، فصار لها كيان مستقل، وشخصية مناوئة، تقف إزاءه، وترصد فكره، ولا تنفك تحاوره وتلح عليه في الحوار، وتسأله وتلح عليه في السؤال، حتى تضطره للإجابة عليها بحشد هائل من الأدلة والبراهين التي تقنعها وتطمئنها، وتلزمها الحجة والتسليم. وفي معرض وصفه لهذه المعاناة مع نفسه يقول النورسي:

«إن هذه ثلاثون سنة لي مجادلة مع طاغوتين وهما: «أنا» في الإنسان، و«الطبيعة» في العالم». (1)

والمأساة الأخرى التي ظلّتْ تؤرّق النورسي طوال حياته، وتنغر في ضميره، إنما هي سقوط الملايين من البشر في هذا العصر في حبائل «الطبيعة» وانحباس أرواحهم في أقفاصها، وتعبّدهم -كما يتعبد الوثنيون- لنواميسها وسننها، فنسبوا لهذه النواميس والسنن ما ينسبه المؤمنون إلى الله تعالى من صفات الخلق والإيجاد والقدرة والعلم والحكمة والقصد والاختيار، وبذلك حَجبت «الطبيعةُ» المخلوقةُ، بصفاتها الاعتبارية غير الذاتية، الإنسانَ الوثني عن «الخالق» الحقِ، وامتصت إيمانَه، وأنشبت أظفار الجحود الحاد في روحه، وحولت قلبه الخصب إلى جفاف كجفاف رمال الصحراء، فاستُثني -بهذا الانحراف الأخرق عن الله- استثناءً شاذا من بين التوافق الكوني العظيم الذي تندرج الأشياء جميعا فيه، وتتآلف معه في وحدة كونية نابضة بالمعرفة والمحبة لله، فإذا به -على الرغم من كل منجزاته الحضارية المبهجة- ينوح نوحا مريرا على شقائه الروحي كنواح النغم الحزين المنفرد بحزنه من بين منظومة اللحن الضاحك البهيج.

وكما حاور النورسي جموح النفس، وناقش نزقها وتمردها، وردّ على اعتراضاتها حتى راضت وقنعت واطمأنت، فإنه كذلك ناقش المؤلِّهين للطبيعة، واستعرض مقولاتهم، ثم ردّ عليها واحدةً تلو الأخرى، وخلص في خاتمة المطاف إلى خطلِ رأي مَنْ ينسب إليها الحياة والخلق والإيجاد من دون الله تعالى.

ولما كانت «نفسه» دائمة الحضور معه، قائمة بين جنبيه، تناقش فكره الإيماني، وجها


Yükleniyor...