لُفَّ في أساليبَ هي معاكِسُ ألوفِ مراتبِ مقتضيات المقامات وحسيات المخاطبين. وكذا مرّ القرآنُ على سبعين ألف حجاب، وتداخَل إلى أعماق القلوب والأرواح، وسافر ناشرا لفيضه ومونسا بخطابه على طبقات البشر، يفهمُه ويعرفُه كلُّ دور، ويعترف بكماله ويقبله كلُّ قرن. ويستأنس به ويتخذه أستاذا كل عصر، ويحتاج إليه ويحترمه كلُّ زمان بدرجة يتخيل كلٌّ: أنه أُنزل له خاصة. فليس ذلك الكتاب شيئا رقيقا سطحيا، بل بحرٌ زخّار وشمسٌ فيّاض وكتابٌ عميق دقيق.

اعلم ، انظر إلى الماء والهواء كيف خُلقا سهلَين سلسَين، فسبحان من يرزق ويلقم المكروبَ والفيل. فانظر طباخَ القدرة كيف صنع طعاما لا يضيق عن لقمته فمُ النحل ويملأ فمَ الفيل، ولا يتكبر على فم المكروب ولا يتكبر عليه فمُ الكركدن، ويقول كلاما يسعه صماخُ الذرة ويمتلئ به أُذن الشمس، ويعطي للكلمة التي تتكلم به تناسلا واستنساخا، بوجهٍ يمتلئ بعين تلك الكلمة كهفُ الجبل فيجيبك بالصدى، ولا تتعاظم على الحجيرة التي في صماخ البعوضة.

اعلم أنه يليق أن يُتصوَّر وقتَ الصلاة عالمُ الإسلام مسجدا، محرابُه مكّة وآية المحراب الكعبة، يصلي في ذلك المسجد أجيال. فإذا سجدوا في الفَناء، يجيء أجيال أُخر فيصلون فيذهبون، فيُملأ ويُفرغ دائما. فالأعصار كدقائقِ وقت العصر في مسجد «بايزيد».

اعلم يا سعيد! من السعادة أن تتركَ اليوم على الكرم منك -وأنت عزيز مستبقيا للفضيلة- ما يتركك غدا على الرغم منك وأنت ذليل، مبقيا عليك الخسارة؛ إذ إن تركتَ الدنيا انسللتَ من شرها فأورِثتَ خَيرَها، وإذا تركَتْك انسللتَ من خيرها وأثمرتْ لك شرَّها.

اعلم أن المدنية الفاسقة أبرزت رياءً مدهشا يتعذر الخلاصُ منه على أصحاب المدنية، إذ سمّت الرّياء ب«شان وشرف» (22) وصيّرت المرءَ يرائي للمِلَل ويتصنع للعناصر كما يرائي للأشخاص، وصيّرت الجرائدَ دلّالين له، وجعلت التاريخ يصفق ويشوق بالتصفيق، وأنْسَت الموتَ الشخصيَّ بحياة العنصرية المتمردة بدسيسة الحَمية الجاهلية الغدارة. (23)


Yükleniyor...