فالمصنوع ينادي بأعلى صوته بأني صنعةُ عليمٍ حكيم، سميع بصير، بنظام وميزان. مع أن الأسباب عميٌ صمٌ جامدة ميتة؛ كلما اجتمعت واختلطت -ففضلا عن حصول صنعة بصير- يتزايد العَمى والأصمّية؛ إذ اختلاط العُمي الصُم لا يزيدهم إلّا عُميا وأصمية، مع أن الأسباب بالنسبة إلى ذلك البدن كنسبة زجاجات الأدوية في «أَجْزَخَانَةٍ» (29) بالنسبة إلى معجونٍ ذي خاصية عجيبة يؤخذ من كلٍّ مقدارٌ معين بلا زيادة ولا نقصان بميزان مخصوص، إن زاد أو نقص درهمٌ من مئات من الزجاجات، فاتَتْ خاصيةُ المعجون؛ فإن أمكن أن يَخرج من كل زجاج مقدارٌ مخصوص بنفسه بلا حكيم مع تفاوت المقادير، ثم يتحصل ذلك المعجون بنفسه، أمكن أن تدّعي: أن هذا البدن اختطتفتِه من أيدي الأسباب، فتملّكتِه.
الحاصل: توهُّم المالكية إنما نشأ من حُمقكِ وبلاهتكِ.
الحقيقة الثانية: اعلمي يا أيتها النفس الأمارة! أن لك دنيا هي قصر، واسعةً مبنيةً بآمالك وتعلقاتك واحتياجاتك إلى الأكوان، فالحجرُ الأساس في ذلك القصر، والأصلُ الأول والعمود الفريد، هو وجودك وحياتك، مع أن هذا العمود مدوّد، وهذا (التمل جوروك) والأساس فاسد ضعيف مهيأ للخراب في كل آن. فليس هذا الجسم بأبديّ ولا من حديد ولا حجر؛ بل من لحم ودم مهيئ لأن يتفرق في كل آن، فبانحلاله تنفلق عنك هذه الدنيا بحذافيرها، فتخرب على رأسك دنياك. فانظري إلى الماضي إذ هو قبر واسع خرب على رأس كل ميتٍ كان مِثلَكِ في دنياه، والمستقبل أيضا قبر واسع يكون مثله، وأنت الآن بين ضغطة القبرين، كما أن أمس قبرُ أبي، وغدا قبري، وأنا أيضا بين ضغطة القبرين. فالدنيا مع أنها واحدة؛ تداخلتْ واندمجت فيها -لكل أحد- دُنيا بتمامها، فهي شخصية كلية، مَن مات قامتْ قيامتهُ..
الحقيقة الثالثة: قد شاهدتُ أن الدنيا بجميع لذائذها حملٌ ثقيل، وقيدٌ لا يرضى بها إلا المريضُ الفاسدُ الروحِ؛ فبدلا من التعلقات بالكائنات، والاحتياجات إلى كل الأسباب، والتملق لكل الوسائط، والتذبذب بين الأرباب المتشاكسين الصم العُمي؛ لابد من الالتجاء إلى الرب الواحد السميع البصير الذي إن توكلتَ عليه فهو حسبُك.
Yükleniyor...