إن هذه الحقيقة الدقيقة الرقيقة صارت مشهودةً لي بتمام ظهورها، فرأيت أن ما في النفس من «أنا» المتنبّت بماء الغفلة هو «نقطة سوداء» تصير واحدا قياسيا لِفَهمِ صفات خالقها الذي لا شريكَ له لا في ملكه ولا في ربوبيته ولا في أُلوهيته.
إذ معرفة الناس للأشياء أوّلا نسبية وقياسية، وتفهّم الصفات المحيطة التي لا حد لها يحصل بتوهم الحد.
ف«أنا» يتجاوز عن حدِّه.. فيتوهم الحدَّ، فيقيس، فيفهم.. فيرجع إلى حدِّه، فيزول الحد الموهوم.. فيصير أولا سمكا، وثانيا حَبابا.
فقد مَرّ: أن النفس ليست مالكة لنفسها ولا لجسمها، إذ ما هو (28) لقيطةٌ ولا نتيجةُ تصادف، ولا شيء تافه، ولا متشكلٌ بنفسه؛ بل هو ماكينة دقيقة عجيبة إلهية يعمل فيه في كل وقت قلمُ القدرة بيد القضاء والقدر.
فيا أيتها النفس! تفرّغي من هذه الدعوى الباطلة، وسلّمي المُلكَ إلى مالكه، وكُوني أمينةً على هذه الأمانة. فإذا خنتِ في درهمٍ وأسندتهِ لذاتك، تَشْرعين -بسرّ قياس النفس- تعطين من مال الله لأبناء جنسك، ثم للأسباب قناطيرَ مقنطرةً، كما فعلته الفلاسفة.
أيتها النفس! لستِ مالكةً لك وإلَّا لابد أن تكوني صانعةً وموجِدة لهذا البدن، أو صنعَته الأسباب فاغتصبتِه منها.
كيف تكونين صانعةً وأنت أخت الغنم؟
فالغنم كيف يدعي أنه صانع جسمه؛ والغنم أخو الرمان؟
وكيف تكون صبغةُ الرمان صانعةَ حبّاته؟
وكيف تكون الثمرةُ المتوضّعة على رأس الشجرة خالقةً وصانعة لشجرتها؟
فإن صحّت هذه، صحّت لكِ المالكية.
Yükleniyor...