نعم، مَن يكتب ثلاثمائة ألف كتاب قد انمحت حروفُها في صحيفة واحدة معا، ومختلطا بلا غلط ولا مرج ولا مزج، كيف يعجز عن استنساخِ كتابٍ عن حافظته -هو ألّفه أولا ثم محاه- كتابةً ثانيةً؟ فإن شئت فانظر إلى آيةِ ﴿ فَانْظُرْ اِلٰٓى اٰثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتٰى وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَد۪يرٌ ﴾ (الروم:٥٠) لِترى في تلك الكيفية حقيقة هذا التمثيل. فيُفهَم من هذه التصرفات ويُتحدَّس من هاتيك الشؤونات، أن ما يشاهَد من هذه الاجتماعات والافتراقات، ليست مقصودةً لذاتها، لعدم المناسبة بين تلك الاحتفالات المهمة وبين الثمرات الجزئية الفانية في زمان قصير! بل إنما هي تمثيل وتقليد لتؤخَذ صورُها، وتُركَّب وتحفَظ نتائجُها، وتكتب لتدور المعاملة في المجمع الأكبر عليها، وتدومَ المشاهدة في المحضر الأشهر بها؛ فتثمر هذه الفانيات صورا دائمة وأثمارا باقية ومعاني أبدية وتسبيحات ثابتة. فما هذه الدنيا إلّا مزرعة، والبيدرُ الحشرُ، والمخزنُ الجنةُ والنار.
ولاسيما: إذا أظهر ذلك الربُّ السرمدي والسلطان الأزلي الأبدي، في تلك المنازل الزائلة والميادين الآفلة والمشاهر الراحلة، آثارَ حكمةٍ باهرة ماهرة، وعنايةٍ ظاهرة زاهرة، وعدالة عالية غالية، ومرحمة واسعة جامعة؛ بدرجةٍ يَعرِف باليقين مَن لم يكن على عينه غين وفي قلبه رين، أنه ليس في الإمكان أكملُ من حكمته، وأجمل من عنايته، وأشمل من مرحمته، وأجلّ من عدالته. فلو لم تكن في دائرة مملكته -في ملكه وملكوته- أماكنُ دائمة عالية، ومساكن قائمة غالية، وسواكن مقيمة خالدة، لتكون تلك الأمور مظاهر لتَظاهُر حقائق تلك الحكمة والعناية والرحمة والعدالة، لَلزم حينئذٍ إنكار هذه الحكمة المشهودة لذي عقل، وإنكارُ هذه العناية المُبصَرة لذي بصيرة، وإنكارُ هذه الرحمة المنظورة لذي قلب، وإنكار هذه العدالة المرئية لذي
Yükleniyor...