فإن قلت: لأي شيء أبهَم القرآنُ وأجملَ في أمثالِ ماهيةِ الأجرام العلوية والسفلية وشكلها وحركتها على ما بيّنها الفن؟. (14)

قيل لك: لأن الإبهامَ أهمُّ والإجمالَ أجملُ:

فأولا: لأن القرآن إنما يبحث عن الكائنات استطرادا للاستدلال على ذات الله وصفاته، ومن شرط الدليل أن يكون ظاهرا وأظْهَر من النتيجة، والنتيجة معرفة ذات الله وصفاته وأسمائه. فلو قال على ما يشتهيه أهل الفن: «يا أيها الناس، انظروا إلى الشمس في سكونها، وإلى الأرض في حركتها لتعرفوا عظمةَ قدرة خالقها»، لصار الدليل أخفى وأغمض من النتيجة، وأبعدَ بمراتبَ مِن فهم أكثر البشر في أكثر الأزمان والأعصار، مع أن حق الأكثر المطلق أهم في نظر الإرشاد والهداية. فمراعاة فهمهم لا تنافي استفادة المتفلسفين المتعمقين القليلين. ولكن في مراعاة هذا الأقلِّ محروميةُ الأكثر في أكثر الأوقات.

وثانيا: إن من شأن البلاغة الإرشادية مماشاةَ نظر العموم، ومراعاةَ حس العامة ومؤانسة فكر الجمهور؛ لئلا يتوحش نظرهم بلا طائل ولا يتشوش فكرهم بلا فائدة، ولا يتشرد حسهم بلا مصلحة. فأَبلغُ الخطاب معهم والإرشاد أن يكون ظاهرا بسيطا سهلا لا يُعجزهم، وجيزا لا يملهم، مُجملا فيما لا يلزم تفصيله لهم.

وثالثا: إنَّ القران لا يذكر أحوال الموجودات لها، بل لمُوجِدها.. فالأهم عنده أحوالها الناظرة إلى مُوجِدها. وأما فن الحكمة فتبحث عنها لها. فالأهم عنده أحوالها الناظرة إلى نفسها.. فشتان ما بين الثريا والثرى.

وكذا إنَّ التنزيل يخاطب كل الناس ويراعى فهم الأكثر ليعرفوا تحقيقا لا تقليدا.. والفن يتكلم بالأصالة مع أهل الفن، وأما مع العموم فللتقليد. فما فصَّل فيه الفن -بشرط الصدق- لابد أن يُجمل فيه القرآن أو يُبهم أو يُهمل على درجات نفع العامة.

ورابعا: إنَّ القرآن لأنه مرشد لكل طبقات البشر تستلزم بلاغةُ الإرشاد أن لا يذكر ما يوقع الأكثرَ في المغلطة والمكابرة مع البدهيات في نظرهم الظاهري، وأن لا يغيّر بلا لزومٍ ما هو من المتعارَفات المحسوسة عندهم، وأن يُهمل أو يُجمل ما لا يلزم لهم في وظيفتهم الأصلية.

Yükleniyor...