وهكذا مما لا يعد ولا يحصى من دلائلَ، أنه سينقل رعيته من هذه المنازل المؤقتة إلى مقر سلطنته الدائمة، ومما لا يحد ولا يستقصى من أماراتٍ، تبديلُه هذه المملكةَ السيارة بتلك المملكة المستمرة.

كذلك (5)لا يمكن -بوجه من الوجوه قطعا وأصلا- أن يوجِد هذا العالَمَ ولا يوجِد ذلك العالَمَ، وأن يبدع الفاطر هذه الكائناتِ ولا يُبدعَ تلك الكائنات، وأن يخلق الصانعُ هذه الدنيا ولا يخلقَ تلك الآخرة؛ إذ شأن سلطنة الربوبية يقتضي المكافأة والمجازاة.

ولاسيما: يُعلَم بالآثار أن لصاحب هذه الدار كرما عظيما، ومثلُ هذا الكرم يقتضي كمال الإحسان وحسنَ المكافأة. وأن له عزة عظيمة تقتضي كمالَ الغيرة وشدة المجازاة؛ مع أن هذه الدار لا تفي بعُشر مِعشار عَشير ما يقتضيه ذلك الكرم وتلك العزة..

ولاسيما: أن لصاحب هذا العالم رحمةً وسعت كلَّ شيء، ومن لطائف تلك الرحمة شفقةُ الوالدات مطلقا، حتى النباتاتِ على أولادها، وسهولةُ أرزاق أطفال الحيوانات وضعفائها، وهذه الرحمة تقتضي فضلا وإحسانا يليقان بها. انظر أين مقتضى هذا الرحمة، ثم أين هذه التنعمات الزائلة المنغّصة في هذه الدنيا الفانية -في هذا العمر القصير- التي لا تفي بقطرة من بحر تلك الرحمة؟ بل الزوال بلا إعادة يصيّر النعمةَ نقمةً، والشفقةَ مصيبةً، والمحبة حرقة، والعقل عقابا، واللذة ألما، فتنقلب حقيقةُ الرحمة. فتلزم المكابرة بإنكار الرحمة المشهودة، كإنكار الشمس مع شهود امتلاء النهار من ضيائها. وكذا يُعلم من تصرفات صاحب هذا العالم أن له جلالَ حيثيةٍ وعزةٍ، يقتضيان تأديب من لا يوقّره وقهرَ من يستخف به، كما فعل بالقرون السالفة في هذه الدنيا، ما يدل على أنه لا يهمل وإن أمهل. وكذا يُفهم من إجراآته أن له غيرةً عظيمة على استخفاف أوامره ونواهيه.

نعم، ومن شأن من يتعرف إلى الناس بأمثال هذه المصنوعات المنظومات، ويتودد إليهم بأمثال هذه الأزاهير الموزونات، ويترحّم عليهم بأمثال هذه الثمرات المزينات، ثم لا يعرفونه بالإيمان، ولا يتحببون إليه بالعبادة، ولا يحترمونه بالشكر إلّا قليل.. أن يُعِدّ لهم في مقر ربوبيته الأبدية دارَ مجازاة ومكافأة.


Yükleniyor...